عندما استمع إلى حديث الأسواق وهى تحث “الاحتياطي الفيدرالى” على القيام بالمزيد، أتذكر رؤيتين بسيطتين ترسختا لدي منذ سنوات وقد لا تساعدان في توقع ما سيفعله الفيدرالي في النهاية، لكنهما قد تُلقيان الضوء على التداعيات المحتملة.
في أوائل سنوات عملي في “بيمكو”، أتذكر بيل جروس، مؤسس الشركة والمستثمر الأسطوري، وهو ينصح مديري المحافظ بأن “هناك أوقات يكون فيها أفضل شيء هو عدم القيام بشيء”، وهي نصيحة مهمة، نظراً لأن أغلب مديري المحافظ معتادون على البحث دوماً عن الفرص والتصرف وفقاً لذلك، ويشعرون عادة بالضجر عندما تفرض عليهم أحوال السوق استراتيجية الانتظار، وتتراوح تكلفة تجاهل نصيحة جروس من إهدار المال بغير ضرورة على فروق أسعار الشراء إلى الانتهاء بمحفظة لا تتمتع بتوزيع مثالي للأصول.
وينبغى أن يستمع المسئولون فى الفيدرالي، إلى نصيحة جروس في الوقت الذي يخضعون فيه لضغوط من الأسواق للقيام بالمزيد بما في ذلك خفض الفائدة للمنطقة السلبية والتحكم في منحنى العائد والتوسع في برامج شراء الأصول، وهي كلها أمور – من منظور الأسواق الضيق – ستساعد في جذب المزيد من أموال المستثمرين إلى الأصول الخطيرة مثل الأسهم والسندات عالية العائد، وبالتالي تعزز أسعارهم أكثر، ومع ذلك يوجد القليل من الأسباب الاقتصادية المعقولة – إن وجد أصلاً – تحثهم على القيام بذلك.
وهناك 4 أسباب عادة ما تذكر كمبررات لتحركات السياسة النقدية الاستثنائية:
أولاً.. أداء الأسواق
بعد اضطرابات كبيرة، أصبحت الأسواق المالية الأمريكية سائلة وتعمل جيداً بفضل التدخلات الطارئة من قبل “الفيدرالي”، والتي اعترف رئيس الفيدرالي، جيروم باول، الأسبوع الماضى، بأنها ” تخطت الكثير من الخطوط الحمراء، إذ وجد البنك المركزي نفسه في وضع يجعله يقوم بالأمر ثم يفكر فيه بعد ذلك.
ثانياً.. تقلبات الأسواق
أصبحت أسعار الفائدة الحكومية تتداول في نطاق ضيق خلال الأسابيع الماضية، وأنهت عائدات سندات الخزانة لأجل 10 سنوات شهر مايو وهي ثابتة تقريباً، مقارنة بالشهر الذى يسبقه.
وكل ذلك يحدث في سياق اقتراض قياسي من الحكومة وكذلك إصدار قياسى من قبل الشركات ذات التصنيف الائتماني الاستثمارى.
ثالثاً.. تدفقات الائتمان
لم يكن لدى أغلب الشركات التي تستطيع الوصول للأسواق مشكلة فى إصدار السندات، وفى الواقع، كانت وتيرة الإصدار في الأسابيع الماضية هي الأعلى على الإطلاق عند تريليون دولار، وعلاوة على ذلك، كانت الإصدارات بأسعار فائدة منخفضة نسبياً بالنظر إلى العائدات المنخفضة لسندات الخزانة وتراجع فوارق المخاطر.
رابعاً.. النشاط الاقتصادي
رغم أن الاقتصاد يواجه تحديات على أوجه عدة، فمن الصعب المجادلة بأن هذه التحديات ناتجة عن أحوال مالية يستطيع الفيدرالي التحكم بها.
وبعد كل شيء، قد يشعر “الفيدرالي” بالإغراء للقيام بالمزيد في كل الأحوال على أساس أنه خيار بلا عواقب، وهنا تأتي أهمية نصيحة أخرى تلقيتها من وزير خارجية في الثمانينيات، عندما ألححت عليه بالسؤال: “لماذا لم يرد بالقوة على فعل استفزازي من حكومة عدائية؟”، فأجاب: “كن حريصاً عندما تقوم بفعل يهدد بعواقب غير مقصودة ويصعب عكس نتائجه”.
وسيخاطر الفيدرالي من خلال مواصلة التدخل لمقابلة توقعات الأسواق بخلق ليس فقط اختلالات إضافية، ولكن أيضاً “أسواق زومبي” أي أسواق لا تستطيع إرسال إشارات تسعير دقيقة وتفشل في لعب دور فعال في تجميع وتخصيص رؤوس الأموال وهو ما سيقوض الإنتاجية ويضر بآفاق النمو ويهد الاستقرار المالي، وهناك أيضاً قضية “عدم وجود مخرج” أى عدم القدرة على العودة، حيث ستبدو مخاطر العودة أعلى بكثير.
وباختصار، يُنصح الفيدرالي بتجاهل دعوات القيام بالمزيد، بخلاف تفعيل برامج إقراض الاقتصاد الحقيقي بأسرع وقت ممكن، وهذا لا يعنى أنه لن يكون هناك حاجة للتحركات السياسية، وأن الفيدرالى لن ينخرط فى تحركات مشتركة في المستقبل.
أما في الوقت الحالى، فإن الأولويات السياسية تقع بشكل مباشر على عاتق الكونجرس والبيت الأبيض، وتشمل:
جولة أخرى من تدابير الإغاثة الموجهة لمساعدة أكثر شرائح المجتمع تألماً واحتياجاً، وتقليص مخاطر كوفيد 19 المرتبطة بإعادة فتح الاقتصاد عبر تعزيز الدعم للاختبارات الأفضل والتتبع والعلاجات والأمصال.
بجانب تحسين شبكات الأمان الاجتماعي لتقليص احتمالية، أن يؤدى شعور الأسر بعدم الأمان الاقتصادي إلى كبح الاستهلاك فى مرحلة التعافى الاقتصادي، وأيضاً مكافحة الضغوط الهبوطية على الإنتاجية والنمو من خلال مجهودات تحديث البنية التحتية وإعادة تدريب العمالة وتوسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
ولا يعنى أى من ذلك أن العمل السياسى للفيدرالى انتهى، بل يتعين على المسئولين به مواصلة متابعة أداء الأسواق والنشاط الاقتصادى، عن كثب.
كما ينبغى عليهم العمل على سيناريوهين سياسيين، وهما كيفية تطبيع الأوضاع المالية بطريقة منظمة، وكيفية دعم الاقتصاد الحقيقى دون تدمير أداء الأسواق أو رفع أسعار الأصول لمستوى أعلى.
وبخلاف ذلك، فإن عدم القيام بشيء هو أفضل شيء على الإطلاق فى الوقت الحالى.
بقلم: محمد العريان، المستشار الاقتصادي لمجموعة “أليانز”، ومجموعة “جرامسرى”، ورئيس كلية كوينز بجامعة كامبريدج.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”