تعيش أوروبا لحظة محورية إذ تهدد أزمة الطاقة العالمية بتوجيه ضربة قوية لقطاعات واسعة من صناعتها وتقويض قدرتها بشدة على المنافسة على المسرح العالمى، وفى الوقت نفسه، يتعين على المنطقة أن تتعامل مع تداعيات الخطوات الرئيسية التى تتخذها الاقتصادات الرائدة الأخرى فى سياساتها الصناعية الخاصة.
قانون خفض التضخم فى الولايات المتحدة هو مغير لقواعد اللعبة، حيث يوجه مئات المليارات من الدولارات لبناء صناعات الطاقة والتصنيع فى المستقبل، ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة ليست وحدها التى تتابع مثل هذه الجهود الضخمة، كانت الصين متقدمة على المنحنى فى تطوير التصنيع المحلى لتقنيات الطاقة النظيفة، فى حين أن دولًا مثل اليابان وكوريا والهند تدفع أيضًا تجاه زيادة الاستثمار والدعم.
وهذا يتطلب من الاتحاد الأوروبى إعادة تقييم استراتيجيته الصناعية بهدف تهيئة اقتصاد المنطقة لتحقيق نمو جديد فى العقود المقبلة، ومهدت حزمة الاتحاد الأوروبى لخفض الانبعاثات بنسبة 55% بحلول 2030 وخطة إعادة تزويد الاتحاد الأوروبى بالكهرباء الطريق لانتقال الطاقة النظيفة الشامل للكتلة، لكن حجم الإجراءات التى يتم اتخاذها فى أماكن أخرى، والتداعيات الهائلة لأزمة الطاقة فى أوروبا، يستدعى استراتيجية صناعية جديدة جريئة فى الاتحاد الأوروبى.
وتقع أسعار الغاز الطبيعى، التى ارتفعت بشكل كبير نتيجة للغزو الروسى لأوكرانيا، فى قلب الأزمة الحالية وتهدد القطاع الصناعى الأوروبى، وتعانى بالفعل القطاعات الأكثر كثافة فى استخدام الطاقة مع تزايد عدد الشركات التى أوقفت عملياتها بشكل مؤقت أو دائم.
وتولد الصناعات الرئيسية المستهلكة للغاز فى أوروبا، بما فى ذلك المواد الكيميائية ومعالجة الأغذية والصلب والورق، قيمة اقتصادية تزيد عن 600 مليار دولار سنويًا وتوظف ما يقرب من 8 ملايين عامل.
وقد تكون هذه المناطق هى الأكثر عرضة للخطر، لكنها ليست سوى غيض من فيض، ويطرح التعرض لتكاليف الطاقة المرتفعة تحديات أوسع نطاقاً للقدرة التنافسية للقطاع الصناعى فى أوروبا، وحتى الآن، يبدو أنه تكيف بشكل جيد خلال هذا العام المضطرب، ويرجع الفضل فى ذلك جزئيًا إلى الإجراءات الطارئة التى اتخذتها الحكومات، لكن الاتحاد الأوروبى يحتاج إلى خطة رئيسية للمستقبل تتجاوز وضع البقاء على قيد الحياة.
والحقيقة المزعجة هى أنه على مدى عقود، كان نموذج الأعمال للعديد من الصناعات الأوروبية يعتمد على توافر إمدادات وفيرة ورخيصة من الطاقة الروسية، لكن تحطم نموذج الأعمال هذا عندما غزت روسيا أوكرانيا.. ولن يعود.
كما أن ارتفاع أسعار الطاقة ليس مجرد ظاهرة مؤقت، وتواجه أوروبا الآن أسعارًا أعلى من الناحية الهيكلية لواردات الوقود فى ظل غياب الغاز الروسى، وهذه إشارة واضحة إلى أن المنطقة بحاجة إلى إيجاد مصادر جديدة للميزة التنافسية أو ستواجه خطر تراجع التصنيع.
أحد المجالات التى يمكن أن تجد فيها ميزة هى الجيل القادم من الإنتاج الصناعى، ويتجه الاهتمام بشكل متزايد إلى إمكانات التصنيع منخفض الانبعاثات، والتى ستزداد أهميتها فقط مع تكثيف البلدان للجهود للوصول إلى أهدافها المناخية وتوسع اقتصاد الطاقة الجديد، وهذا يعنى زيادة الطلب على تقنيات الطاقة النظيفة، مثل السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وتوربينات الرياح، والمواد الرئيسية مثل الفولاذ والألمنيوم والأسمنت التى يمكن إنتاجها بانبعاثات أقل بكثير مما هى عليه اليوم.
وفى قطاع الكهرباء، تعد الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بالفعل أرخص الخيارات، ما يوفر حوافز اقتصادية قوية تساعد فى تعزيز انتشارهما، لكن الوضع يختلف فى قطاعات أخرى من الاقتصاد، مثل النقل لمسافات طويلة والصناعات الثقيلة، حيث هناك حاجة إلى مزيد من العمل لتحسين القدرة التنافسية لخيارات الانبعاثات المنخفضة.
ومع الرياح البحرية، أظهرت أوروبا أنها يمكن أن تكون رائدة عالميًا فى التقنيات النظيفة، وتحتاج الآن إلى أن تصبح أقوى بكثير فى مجالات مثل البطاريات والمركبات الكهربائية والمحللات الكهربائية للهيدروجين والمضخات الحرارية وغير ذلك، وتواجه تحديات تنافسية قوية، حيث تسعى الصين والولايات المتحدة واليابان والعديد من البلدان الأخرى لقيادة الجيل القادم من تقنيات التصنيع والتصنيع النظيفة.
وتتمتع أوروبا بنقاط قوتها الخاصة: سوقها الداخلى الكبير، وقوتها العاملة الماهرة، وشبكة واسعة من المؤسسات البحثية ومراكز الخبرة، وتاريخ طويل فى إنتاج منتجات مصنعة ذات قيمة مضافة أعلى، لكن كل ذلك يحتاج أن تصاحبه دفعة قوية فى شكل سياسة صناعية جديدة من المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى.
ومن الواضح أن الاتحاد الأوروبى لن يعود إلى ما كان عليه قبل أزمة الطاقة الحالية، ويحتاج إلى أن يحدد معالم الوضع الجارى وأن يكون جريئاً فى الإجراءات التى يتخذها إذا أراد أن يظل قوة صناعية عالمية.
بقلم: فاتح بيرول، المدير التنفيذى لوكالة الطاقة الدولية
المصدر: صحيفة “فاينانشيال تايمز”