اعتاد رواد التكنولوجيا الإفراط فى التفاؤل إلى حد الإزعاج، وكان من المربك بعض الشىء متابعة تحذيراتهم حول العواقب الوخيمة المحتملة لاختراعاتهم.
وفى فاعلية مُقامة بسان فرانسيسكو، الشهر الماضى، قال الشريك المؤسس لشركة ديب مايند، المتخصصة فى أبحاث الذكاء الاصطناعى، مصطفى سليمان، إنَّ الذكاء الاصطناعى يهدد العاملين من أصحاب الياقات البيضاء، وقد يخلق عدداً كبيراً من الخاسرين، الذين سيكونون غير سعداء وغاضبين، وعلى الحكومات أن تفكر كيف تعوضهم.
ولم يكن سليمان وحده من حذر، فـ«سام ألتمان»، الرئيس التنفيذى لشركة «أوبن إيه آى»، رغم أنه أيد، الأسبوع الماضى، خلال شهادته أمام الكونجرس، أنَّ هناك آفاقاً لخلق فرص عمل جديدة، لكنه فى الوقت نفسه، قال إنَّ هناك بعض «التأثير على الوظائف» ما يتطلب شراكة بين الصناعة والحكومة، تغلب عليها التحرك الحكومى، للوصول إلى الطريقة التى نرغب فى تلافى ذلك بها.
وربما تقول فى نفسك، لقد أحسنوا صنعاً، فمن الأفضل أن نكون أمناء بشأن المخاطر المحتملة التى سيتحملها بعض العمال من التحول إلى النظم الآلية، بدلاً من التفاؤل الأعمى، فرغم كل شىء الجميع يتذكر ما فعلته حركة «اللوديتيز» التى واجهت أرباب المصانع بتدمير آلات النسيج التى حلت محلهم، وهو ما اتفق معه، لكن فى الوقت نفسه، أنا أفكر أيضاً أن هناك بعض العواقب الخطيرة من رواية أن الذكاء الاصطناعى سيخلق فائزين وخاسرين، وأن الخاسرين يجب تعويضهم.
فذلك يعطى انطباعاً أن عواقب التغير التكنولوجى، لا يمكن دفعها، وكل ما يمكننا فعله هو الإتيان بحكومات تُنظف الفوضى.
لكن فى حقيقة الأمر، فإنَّ الطريقة التى سيغير بها الذكاء الاصطناعى عالم الوظائف أبعد ما يكون عن التحديد المُسبق، فهو يعتمد على توازن القوى فى ملايين أماكن التوظيف المختلفة، وعلى التشريعات وإنفاذها، وعلى نتائج الخلاف حول الأفكار والقوانين، وشروط العمل، وحول توزيع الإنتاجية والمكاسب.
وكما يجادل الاقتصاديان دارون عجم أوغلو، وسيمون جونسون فى كتابهما الجديد، القوة والتطور، أن ذلك الوضع متكرر على مدار التاريخ بداية من الصناعة فى العصور الوسطى، للمصانع فى الثورة الصناعية.
وحركة «اللوديتيز» فى حقيقة الأمر مثال جيد، فهم لم يكونوا أعداء للتكنولوجيا فى ذاتها بقدر ما كانوا ضد الطريقة التى تم تنفيذها بها، بشكل يقلل من مهاراتهم ويستبدلهم بآلات، يمكن تشغيلها بعمالة غير ماهرة أو حتى أطفال، لذلك قاموا بتكسير الآلات بدافع الإحباط، لكن مطالبهم لم تكن غير منطقية فى القرن الواحد والعشرين، إذ شملت أفكارهم حداً أدنى للأجور، وحقوق دنيا للعمال، وضرائب على أصحاب الماكينات لمساعدة العمال الذين تم تسريحهم، وكان ينقصهم فقط القوة لإحراز أى تقدم.
والآن فى العراك الدائر اليوم فى هوليوود يتردد صدى تلك المخاوف، بشأن تهميش المهارات، فى ظل الخلاف بين الكتاب والاستديوهات حول استخدام الذكاء الاصطناعى فى عملية كتابة النصوص، لكن بدعم من اتحاد عمالى قوى، الكُتاب قد يكونوا قادرين على التفاوض بشأن شروط أكثر عدالة مستقبلاً.
ولعل المشكلة الأخرى فى رواية «تعويض الخاسرين»، هى أنها تجعل الحكومات كالمنقذ الوحيد، وذلك يجعل الشركات تفلت من المقصلة، كما تجعل الأشخاص بلا أهلية.
فى السويد، هناك نموذج ناجح لمنظور بديل، فالدولة خلقت نظاماً للإجازت للتعلم مدى الحياة، ووفق اتفاقية بين الموظفين والاتحادات والحكومة، بحيث يمكن للعاملين الحصول على إجازات للتدرب على شىء جديد، مع الحصول على ما يصل إلى 80% من رواتبهم.
ولا يتساوى ذلك مع الانتظار حتى يصبح الناس غير مفيدين، ثم نعرض عليهم تدريباً رخيصاً، حتى تتمكن من وضع علامة فى مربع «إعادة التدريب» فى كتيب «تعويض الخاسرين»، والذى لم يسر على ما يرام فى المناطق غير الصناعية فى العديد، من البلدان المتقدمة فى العقود الأخيرة.
عوضاً عن ذلك، الفكرة أن تكون فعالاً فى مساعدة العمال أن يكونوا مستعدين للتغيرات فى عالم العمل، ولمساعدتهم على زيادة قاعدة مهارات قوة العمل.
وتأمل اتحادات العمل السويدية أن يجعل ذلك أعضاءها أكثر أماناً فى سوق العمل، وأكثر مقاومة للقوى المدمرة التى تواجه العاملين فى الاقتصادات الصغيرة المفتوحة، بحسب فريدريك سودركفيست، الاقتصادى فى منظمة العمل الدولية. ويسلط هذا النوع الضوء على مبدأ أساسى للنموذج السويدى الذى من المفترض أن يوفر الأمن فى سوق العمل على مستوى الوظائف الفردية وليس العكس.
ولقد حان الوقت للتوقف عن القول إنَّ الذكاء الاصطناعى ينتج خاسرين وفائزين، فى ظل أن كل شىء ما زال فى متناول أيدينا، وذلك يخلق فرصاً ومخاطر، وكيفية التعامل مع ذلك هو خيارنا.
بقلم: سارة أوكونور
كاتبة عمود لدى «فاينانشيال تايمز»
المصدر: صحيفة «فاينانشيال تايمز»