حتماً سيكون ثمة فائزون وخاسرون في مجالات التجارة والاستثمار الدوليين بسبب ثورة الذكاء الاصطناعي، وهذا أمر بين، لكن الجوانب الثانوية هي التي ستكون أكثر إثارة للاهتمام.
لفهم ذلك عليك أن تنطلق من فرضيتين، أولاهما أن خدمات الذكاء الاصطناعي ستستهلك قدراً كبيراً من الكهرباء ولن تكون متجددة المصدر دوماً، والفرضية الثانية هي أن دولاً كثيرة ستنظم إما استخدام الذكاء الاصطناعي، أو استخدام السلع والخدمات المشتقة منه، على سبيل المثال ابتكار الأدوية أو التقنيات التعليمية الجديدة.
دعونا نفكر في كل من هذا على حدة.
يستهلك استفسار عبر “تشات جي بي تي” كثيراً من الطاقة، بما يفوق حسب أحد التقديرات 10 أضعاف بحث عبر “جوجل”.
إن محدودية نماذج اللغات الكبيرة كافية كي لا يكون هذا الأمر عاملاً رئيسياً في إجمالي استهلاك الكهرباء حالياً، لكن زيادة استخدام خدمات الذكاء الاصطناعي، سترفع العبء على الطاقة.
إن البلدان التي تباع الطاقة فيها بأسعار باهظة، أو التي لن تسمح بارتفاع كبير في استهلاكها لأسباب مناخية أو تنظيمية؛ ستتطلع لاستيراد خدمات الذكاء الاصطناعي من بلدان غنية بالطاقة.
تفوق بالطاقة
ربما تشمل المناطق الغنية بالطاقة في المستقبل إسبانيا والمغرب من حيث الطاقة الشمسية، وكوريا الجنوبية بسبب الطاقة النووية معقولة الأسعار، وكذلك أي دولة رائدة في مجال الانشطار النووي.
وقد ينتهي الأمر بأن تصبح هذه الدول مصدرةً رئيسيةً للبيانات التي يولدها الذكاء الاصطناعي، وربما تستمد مدخلاتها في مجال الذكاء الاصطناعي من الولايات المتحدة، لكن تتخصص في الحسابات الرخيصة ونقل المعلومات.
كما قد تنضم بعض مناطق أمريكا إلى هذه القائمة أيضاً، خاصة إذا كانت مناسبة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والكهرومائية.
للإيضاح، ستصدر الولايات المتحدة كثيراً من خدمات الذكاء الاصطناعي، عبر شركات منها “أوبن إيه آي” و “جوجل” و “ميتا”، و “أنثروبيك”.
لكن الولايات المتحدة ليست بارعة في تشييد البنى التحتية بأسعار معقولة، وهذا من شأنه أن يجعلها في موقف غير مناسب في ثورة الذكاء الاصطناعي فتتوزع مكاسب عديدة على من سواها.
يبقى أن نرى فيما لو أن أرباح بيع كود المصدر الأصلي ستكون هي الأعلى أم حسابات الذكاء الاصطناعي القائمة على البنى التحتية والمعتمدة على الكهرباء.
مع ذلك؛ فإن هذا يشكل خطراً محتملاً على الاقتصاد والأمن القومي للولايات المتحدة، إذ قد ينتهي بها الأمر بتقدم قوي في منتج المصدر، لكن بتخلف شديد في تصنيع مخرجات الذكاء الاصطناعي النهائية.
مرونة ضرورية
إن سبيل تجنب هذه المشكلة المحتملة هو تسهيل ترخيص بناء محطات توليد الطاقة وتقليل تكاليفها، إن أي ولاية أمريكية تفعل ذلك، وقد يفعل بعضها، ربما تصبح قوة اقتصادية حقيقية.
وربما تفضل مؤسسات أمريكية كثيرة أن تشتري حسابات الذكاء الاصطناعي محلياً فيها وليس من قوة أجنبية، ولو كان سبب ذلك يقتصر على أمن البيانات.
عندما يتعلق الأمر بتشكيل التجارة الدولية؛ تجلب القواعد التنظيمية المحلية المتعلقة بالمنتجات المحتملة لخدمات الذكاء الاصطناعي عاملاً ثانياً مهماً.
لنتأمل هذا السيناريو: تقترح خدمات الذكاء الاصطناعي عدداً كبيراً من الأدوية التي قد تفلح لعلاج بعض الأمراض.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تفرض قيوداً صارمة إلى حد ما على الموافقة على مثل هذه المستحضرات الصيدلانية.
لذلك، ستنشأ فرصة تجارية، مع تخصص بعض الدول في اختبار منتجات خدمات الذكاء الاصطناعي.
في الوقت الحالي، ثمة شركات أدوية كبرى تقيم تجارب على أدوية في أفريقيا، إذ إن التكاليف أقل واللوائح التنظيمية أيسر.
سيتسع نطاق هذه المراجحة التنظيمية إلى حد كبير، وستكون النتيجة الصافية أن الدول التي تُقبل تنظيمياً على اغتنام الفرص ستجذب استثمارات أجنبية أكبر.
وماذا عن السيناريو التالي المتصل بذلك؟
يشير الذكاء الاصطناعي المتقدم تفوق بعض التقنيات التعليمية، وقد تكون دول كثيرة بيروقراطية بإفراط لدرجة أن لا تتمكن من الاستفادة من مثل هذه الخيارات بسرعة.
وليس من الصعب أن نتصور أن بعض الدول الأصغر، خاصة التي يحكمها قدر أقل من الضوابط والتوازنات، هي أسرع في تنفيذ التغييرات.
ماذا لو تبنت سنغافورة الابتكارات التعليمية الجديدة قبل أن تنتشر إلى أوروبا الغربية أو كاليفورنيا؟
لن يتحسن التعليم في سنغافورة فحسب، بل إنها قد تطور منتجات للتصدير من خلال تلك الابتكارات، مثل التعليم التفاعلي عبر الإنترنت.
كما أن الدول التي تطور أو تتسامح مع الابتكارات التي يولدها الذكاء الاصطناعي ستصبح مصدرة بشكل أكثر أهمية.
هل يمكنك أن تتخيل مستقبلاً تبقى فيه الولايات المتحدة رائدة في مجال ابتكار الذكاء الاصطناعي، فيما يعتمد العالم على سنغافورة أو الأوروغواي للحصول على كثير من المنتجات الفعلية ومصادر الطاقة؟
ماذا لو وجدت تلك الدول أن بناء مفاعلات نووية أسهل أو أن تجربة الابتكارات الاجتماعية والاقتصادية المستمدة من الذكاء الاصطناعي أيسر؟
بمرور الوقت، يمكن لهذه البلدان أن تصبح من الحلفاء الأكثر أهمية.
بشكل أكثر عمومية، ربما تتطلع عديد من الدول الكبرى إلى شركاء أصغر بمرونة مؤسسية أكبر كجزء من سلسلة جديدة من التحالفات الاقتصادية، وربما العسكرية أيضاً، مشتقة من الذكاء الاصطناعي، من الذي سينتهي به الأمر أشد وبالاعتماد على من؟
على أي حال، كما في العديد من المساعي البشرية الأخرى المتأثرة بالذكاء الاصطناعي، فإن التجارة الدولية لن تكون أبداً كما كانت.
بقلم: تايلر كوين
كاتب عمود في وكالة أنباء “بلومبرج”
المصدر: وكالة أنباء “بلومبرج”