على مدى قرون، وفرت المدن ملاذًا لملايين الفارين من الحروب والمجاعات وغيرها من الصدمات. لكن المدن نفسها مُعرضة للصدمات الناجمة عن الاكتظاظ والمرض والعنف والاضطرابات الاجتماعية. فما مدى نجاح المدن فى البلدان النامية فى امتصاص الصدمات؟ نبحث الإجابة على هذه الأسئلة فى تقريرنا الجديد المعنون “مدن نابضة بالحياة”.
كانت عشرينيات القرن الحادى والعشرين حقبةً من الصدمات، وليست جائحة كورونا والتضخم وتغير المناخ والاضطرابات الاجتماعية سوى أبرز هذه التحديات. وفى البلدان النامية، لم تكن المدن فعالة فى امتصاص الصدمات. ودعونا نتأمل أربع مجموعات من الشواهد والأدلة:
كانت الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا أسوأ فى المدن المُبَينة فى الشكل أدناه: فالمرض وتدابير احتوائه أضرت بالنشاط الاقتصادى الحضرى فى كل مكان. وعانت المدن فى البلدان النامية من شدة الانكماش الاقتصادى وبطء التعافى أكثر مما عانت منه المدن فى البلدان المتقدمة.
وتضررت المدن فى البلدان النامية من جائحة كورونا أكثر من غيرها، إذ أدى الاكتظاظ إلى تفاقم مخاطر العدوى بفيروس كورونا.
ويعيش أكثر من 35% من سكان المناطق الحضرية فى البلدان النامية داخل أحياء فقيرة. ويُعد الاكتظاظ السكانى سمةً تميز العديد من المدن فى هذه البلدان، حيث يعيش الناس فى مساكن دون المستوى المطلوب، ويفتقرون إلى المساحات المفتوحة، كما أن البنية التحتية عديمة الكفاءة.
وببساطة، لم يكن لدى معظم الناس القدرة على التباعد الاجتماعى أثناء الجائحة، مما أدى إلى وجود “بؤر العدوى الساخنة”.
تُسببُ ضرباتُ الطبيعة أشدَ الضرر للمدن فى البلدان النامية: فالفيضانات تتسبب فى إعاقة النشاط الاقتصادي، ويكون تأثيرها أشد فى المدن فى البلدان النامية، حيث تقل الأضواء الليلية (وهى مؤشر بديل للنشاط الاقتصادي) بنسبة 8.3% مقارنة بنسبة 1.4% فقط فى البلدان مرتفعة الدخل.
وفى العاصمة الأردنية عَمَّان، يُعد أكثر من نصف الأسر المعرضة للمخاطر من ذوى الدخل المنخفض وليست لديهم القدرة الكافية على مواجهة أخطار الفيضانات. ومن المحتمل أن تتعرض نحو 66,900 أسرة فى عَمَّان لفيضانات الأمطار، منها 34.3 ألف أسرة منخفضة الدخل.
وفى أكرا، تتسبب الفيضانات فى خسائر فادحة بممتلكات نسبة كبيرة من الأسر الفقيرة، رغم أن احتمال تعرض هذه الأسر للفيضانات ليس أكبر مما هو عليه بالنسبة للأسر غير الفقيرة.
فى 14 حيًا من الأحياء الفقيرة فى بنغالور بالهند، كان الاستثمار فى تعليم الأطفال هو الأولوية القصوى للأسر، وعادة ما يكون حظ أطفال الأحياء الفقيرة من التعليم أفضل من آبائهم.
أما الأحياء الفقيرة فى جاكرتا، فقد تحسن مستوى التحصيل الدراسى لأطفال الأسر التى تعيش فيها. ومع ذلك، فإن تحسين مستوى التعليم لا يعنى زيادة القدرة على التنقل الوظيفى فى الهند أو إندونيسيا، حيث يعمل معظم سكان الأحياء الفقيرة – وخاصة النساء – فى الأحياء الفقيرة.
كما أنهم لا يستطيعوا الحصول على وظائف مجزية فى القطاع الرسمى لأنهم لا يمكنهم الوصول إلى شبكات توظيف أفضل، وغالبًا ما يكونون معزولين عن مراكز المدن. ويواجه سكان الأحياء الفقيرة أيضًا قدرًا كبيرًا من احتمال الانتقال إلى وظائف أقل فى ميزاتها إذا مرضوا أو تعرضوا لصدمات أخرى.
ما الذى يمكن أن تفعله هذه المدن لتصبح أفضل قدرة على امتصاص الصدمات؟ على مر السنين، تمت التوصية بتنفيذ العديد من السياسات، منها إنشاء أسواق رسمية للأراضى والعمل، وربط الأحياء بكفاءة، وتوفير الخدمات الأساسية على نحو أكثر إنصافًا، وغيرها من السياسات. ومع وجود صعوبة فى تنفيذ بعض هذه السياسات، وإن كان بعضها أقل صعوبة، ناهيك عن التكلفة الباهظة من الناحية الفنية، فالعديد من مدن البلدان النامية لا تقوم حتى بالإصلاحات والاستثمارات الأساسية. فما هى الأسباب؟
فى تقريرنا المعنون مدن نابضة بالحياة، بحثنا كيف يمكن صياغة العقود الاجتماعية من خلال الثقة والشرعية، أى ما يتوقعه المواطنون من الموظفين العموميين، وسلوكيات المواطنين تجاه هؤلاء الموظفين، وبدون الشرعية يقل التزام الأشخاص باللوائح التنظيمية، ويكون الإنفاذ أكثر تكلفة – وغالبًا ما يكون غيرُ مُجدٍ – مما يجعل الإصلاحات غير فعالة إلى حد كبير. ومن غير الثقة، من المرجح أن يلجأ المواطنون إلى اتخاذ إجراءات تحقق منافع فردية على حساب المجتمع ككل – مثل الحصول على الرشاوى، والتهرب من أداء الواجبات العامة، وإلقاء النفايات بشكل غير قانوني، والتعدى على الأراضي، وما إلى ذلك.
وفى ولاية سيارا بالبرازيل، اغتنمت المدينة فرصة إجراء انتخابات بلدية تنافسية من أجل تقديم خدمات صحية أفضل. وأنشأ المسؤولون عن إدارتها ممن لديهم برامج إصلاحية كادرًا جديدًا من العاملين فى مجال الصحة العامة، الذين نجحوا فى تحسين النواتج الصحية للولاية إلى حد كبير. وقدموا لوسائل الإعلام الإخبارية معلومات ثرية عن قيمة الصحة العامة ودور الكادر الجديد، مما خلق توقعاتٍ ومطالب للجمهور من الموظفين العموميين. وقد ساعد ذلك على ترسيخ (ومكافأة) التزام المسؤولين المنتخبين بالإصلاح وغرس شعور بالمهنية لدى العاملين فى مجال الصحة العامة مدفوعًا بضغوط الزملاء والمنافسين لتحسين الأداء.
وتحتاج المدن أيضًا إلى تدعيم قدراتها المالية العامة لتمويل برامجها الاستثمارية والإصلاحية. ويُعد الحجم الهائل للتمويل اللازم للبنية التحتية فى المناطق الحضرية من السمات المميزة لعملية وضع السياسات الخاصة بالمناطق الحضرية، مما يضيف تكاليف تشغيل طويلة الأجل إلى النفقات الرأسمالية الأولية. وفى المغرب، نجحت مدينة الدار البيضاء فى الاستعانة بمقدمى الخدمات المتعاقدين معها لتحديث ممارسات الإدارة، وتحسين جودة الخدمات البلدية، وزيادة الاستثمار فى البنية التحتية والخدمات فى المناطق الحضرية، مما ساهم فى تعزيز حيوية المدينة بشكل عام.
وستظل القدرات المالية للمدن محدودة ما دامت العقود الاجتماعية بين حكومات المدن والمواطنين ضعيفة. وتدرك قيادات المدن أن لديها على الأقل ثلاث أساليب لتعبئة التمويل اللازم لمشروعات البنية التحتية وتقديم الخدمات، تتمثل فى فرض ضرائب على قيمة الأراضى والممتلكات العقارية، وإقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتعبئة الأموال من أسواق رأس المال. وتتمثل العقبة الرئيسية فى الحوكمة، حيث يتعين على سلطات المدن تنفيذ تدابير لتعزيز الشرعية والثقة.
ومن الممكن تعزيز قدرة المدن فى البلدان النامية على امتصاص الصدمات لصالح سكانها على غرار ما تم فى مدن البلدان المتقدمة. وقد تكون هذه العملية شاقة، لكن يمكن القيام بها، وقد حان الوقت للبدء فيها.