قبل بضعة أشهر، قال محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام ورائد التمويل الأصغر والخبير الاقتصادي المتمرد، لمجلة تايم: “الاقتصاد موضوع عقيم”.
لم يكن يدرك آنذاك أنه سيحظى قريبا بفرصة لإثبات مقصده. فبعد الإطاحة برئيسة وزراء بنجلاديش المستبدة الشيخة حسينة في وقت سابق من هذا الشهر، اختير يونس لقيادة حكومة تصريف الأعمال هناك.
تأسست بنجلاديش في عام 1971 بعد حرب استقلال دموية، ولم يكن من المرجح أن تصبح مرشحة لتتحول إلى مثال للتنمية، نظرا للانفجار السكاني وضعفها الحاد في مواجهة الكوارث الطبيعية.
ومع ذلك، بحلول تسعينيات القرن العشرين، بات بوسعها أن تُطالِب بمصداقية بهذا اللقب.
عندما كانت بلدان نامية عديدة أخرى تختنق تحت وطأة إجماع واشنطن النيوليبرالي، كانت شخصيات بنجلاديشية مثل يونس (مع بنك جرامين الذي أسسه) وفضل حسن عابد (مؤسس منظمة BRAC غير الربحية لمكافحة الفقر) تستفيد من أداة ثالثة إلى جانب الدولة والسوق: ألا وهي المجتمع المدني.
أثناء عملي كباحث شاب في مجال التنمية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كنت شاهدة بشكل مباشر على الأعمال المبكرة التي نفذتها هذه المنظمات غير الحكومية الرائدة.
فقد سعت إلى إيجاد الحلول ليس على السبورة بل في الميدان، فخلقت بذلك طبق بتري عالمي للإبداع في مجال التنمية.
وكما قال أحد الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات، كانت بنجلاديش “وول ستريت التنمية”.
لكنه كمثل وول ستريت الحقيقية، انزلق نموذج بنجلاديش إلى متاعب قبل نحو خمسة عشر عاما، عندما عادت حسينة إلى السلطة (شغلت منصب رئيس الوزراء سابقا من عام 1996 إلى عام 2001).
باعتبارها زعيمة رابطة عوامي العلمانية وابنة “الأب المؤسس” لبنجلاديش، مجيب الرحمن، كانت حسينة تُعَد في الأصل رمزا للديمقراطية.
لكن فترة ولايتها اتخذت منعطفا مثيرا للقلق نحو الاستبداد والفساد المستشري، ووصلت الأمور أخيرا أوجها هذا الصيف، عندما حاولت إصدار أمر بشن حملة قمع عنيفة ضد محتجين من الطلاب المسالمين.
كانت الاضطرابات التي شهدها هذا العام ردة فِعل ليس ضد سياسات حسينة القمعية فحسب، بل وأيضا سياساتها الاقتصادية.
لا شك أن النمو السريع الذي شهده الناتج المحلي الإجمالي وتحسن البنية الأساسية منح بنجلاديش سمعة “المعجزة” الاقتصادية.
لكن حسينة فرضت قيودا صارمة على منظمات المجتمع المدني ذاتها التي وضعت بنجلاديش على خريطة التنمية في المقام الأول.
كانت تحتقر يونس بشكل خاص، ووصفته بأنه “مصاص دماء”.
وبعد طرده من منصبه كرئيس لبنك جرامين في عام 2011، لاحقته حكومتها باتهامات قانونية ملفقة.
كانت استراتيجية حسينة الاقتصادية تتلخص في الاستفادة من محاكاة النماذج الواردة في كتب اقتصاديات التنمية التقليدية.
ولتسخير النمو القائم على الصادرات، عملت على توجيه بنجلاديش لتصبح مركز تصنيع منخفض التكلفة للملابس الجاهزة.
وبفضل أجور شديدة الانخفاض وأقل قدر من التنظيم، أصبحت البلاد المؤسسة الاستغلالية لإنتاج الأزياء السريعة للعالم.
كانت إحدى عواقب هذه الاستراتيجية أن فرص العمل المتاحة لخريجي الجامعات كانت قليلة للغاية خارج الوظائف الحكومية، والتي يجري تخصيصها من خلال نظام حصص فاسد وقائم على المحسوبية.
وكان هذا النظام- إلى جانب التضخم المرتفع وغيره من الآثار المتبقية من زمن الجائحة- هو الذي أشعل شرارة الاحتجاجات الصيفية.
والآن بعد أن زَوَّد الشباب الثوري يونس بدرجة غير مسبوقة من النفوذ على الساحتين الوطنية والدولية، تواجه جدارة بنجلاديش في مجال التنمية اختبارا كبيرا.
فهل كان “نموذج بنجلاديش” الذي يركز على المجتمع المدني مجرد انحراف غريب عن الاقتصاد النيوكلاسيكي ووصفاته السياسية، أو أنه يمثل تحديا حقيقيا؟
كما وَثَّقْتُ في مكان آخر، يكمن الاختراق الإبداعي الكبير الذي حققه التمويل الأصغر في توفير القروض من دون الضمانات الاقتصادية أو القانونية (مثل الضمانات والعقود الملزمة) التي يصر الاقتصاد التقليدي على كونها ضرورية.
على النقيض من كل ما قد يتنبأ به المنظور الأكاديمي، فإن مؤسسات التمويل الأصغر في مختلف أنحاء العالم تسجل معدلات سداد تتجاوز 90%.
وفي حين كان يونس معروفا على نطاق واسع بدوره في تقديم أحد أهم التدخلات الإنمائية في العقود القليلة الأخيرة، فقد كنت أشك منذ فترة طويلة في أن البصيرة النفسية التي تكمن في قلب نموذج التمويل الأصغر من الممكن أن تعيد تشكيل تفكيرنا في عموم الأمر.
بدلا من افتراض أن المقترضين (أغلبهم من النساء الفقيرات في القرى البنجلاديشية) هم “فاعلون عقلانيون” يسعون إلى تعظيم المنفعة، وأن السداد من منظورهم غير عقلاني في غياب الإكراه، عَوَّلَت مؤسسات التمويل الأصغر عليهم.
وبدلا من استهداف أفراد، قدمت مؤسسات التمويل الأصغر القروض لمجموعات تتألف من خمس نساء أو نحو ذلك.
ولأن الأفراد يندمجون دائما تقريبا في مجموعات، فإن المنطق وراء هذا النهج واضح.
لكن الديناميكيات بين المجموعات لا تزال غير مدروسة بالقدر الوافي في علوم الاقتصاد (حيث تشكل الأسر والشركات عملاء صنع القرار الرئيسيين ووحدات التحليل الأساسية).
باتباع هذا النهج، تخلق مؤسسات التمويل الأصغر التماسك الاجتماعي داخل المجموعات المتلقية، التي تعقد عموما اجتماعات منتظمة وطقوس سداد عامة، وبالتالي تثير السلوك الاجتماعي الإيجابي من جانب جميع المشاركين.
وكما لاحظت في عمل حيث قارنت بين مؤسسة التمويل الأصغر “إس.كيه.إس” في الهند وسجل بنك “جرامين”، فإن آليات التعزيز الاجتماعي هذه، وليس الحوافز الاقتصادية، هي التي تدعم نجاح هذا النموذج.
تتمثل رؤية قيمة أخرى من عالَم التمويل الأصغر في أهمية تقدير حجم المجموعة المناسبة على الوجه الصحيح، وهو ما يعني في هذه الحالة عموما الإبقاء على المجموعات صغيرة.
وفي حين ساق هذه الحجة منظرون مثل ليوبولد كور وإيرنست فريتز شوماخر في الماضي، يظل خبراء الاقتصاد المنتمون إلى التيار السائد مهووسين باقتصادات الحجم (الأكبر هو الأفضل دائما).
بعد محاكاته في أكثر من مائة دولة، يتميز نموذج التمويل الأصغر في بنجلاديش بأنه احـتُـضِـن في الجنوب العالمي بدلا من استيراده إليه. وهذا المنشأ يجعله مناسبا تماما للسياق الثقافي الذي يعمل فيه.
على سبيل المثال، بما أن المقترضين في الاقتصادات الريفية القائمة على الزراعة يجدون في عموم الأمر صعوبة في الوصول إلى الخدمات المصرفية، فقد أدرك المصرفيون في مجال التمويل الأصغر الحاجة إلى الخروج إلى القرى.
لقد رفض أهل الاقتصاد المنتمون إلى التيار السائد إلى حد كبير الأفكار المستمدة من التمويل الأصغر باعتبارها حكايات شعبية تبعث على الشعور بالسعادة.
لكني في مشروع بحثي جديد، استكشفت بالتعاون مع فريق من العلماء الأهمية العميقة الكامنة في “التفضيلات الاجتماعية” في الترتيبات الاقتصادية.
هل من الممكن أن يتسنى لمؤسسة مصممة لإشراك نظام الأفراد “الغريزي” بدلاً من النظام “التدبري” أن تثير سلوكيات مختلفة منهجيا؟ ماذا لو بدأنا بافتراض وجود وكيل اقتصادي مؤيد للمجتمع، بدلا من وكيل أناني مفتت؟ ماذا لو أعدنا تشكيل شبكاتنا لجعلها أكثر تعاونية؟
ربما نتمكن من تجنب نبوءة الاقتصاد التي تحقق ذاتها حول مأساة الموارد العامة.
إذا توقفنا عن “مزاحمة” خيرنا الباطني، فربما نتمكن من بناء ما يسميه صامويل بولز “الاقتصاد الأخلاقي”.
نتمنى لو يتمكن يونس من المساعدة في توجيه بنجلاديش بعيدا عن كونها ورشة عالمية لاستغلال العمال، والعودة إلى العمل كمختبر عالمي للتنمية البشرية والتقدم الاجتماعي.
في وقت حيث يناقش كثيرون ماذا قد يأتي بعد النيوليبرالية، فإن “مصرفي الفقراء” قادر على المساعدة في تشريب الاقتصاد بالخبرة الحقيقية الواقعية وروح الإبداع الذي يحتاج إليه بشدة.