شهدت الرأسمالية التي ترتكز على مصالح المساهمين عقدًا مليئًا بالتحديات، حيث أصبحت الشركات الكبرى حول العالم تتعامل مع أهداف اجتماعية وبيئية وأمنية تفرضها الحكومات، وهي أهداف تتجاوز الهدف التقليدي لتحقيق الأرباح.
لكن، على العكس من ذلك، أصبحت الشركات اليابانية المدرجة في البورصة أكثر ترحيبًا بالمساهمين، فقد أطلقت إصلاحات الحوكمة التي بدأت بعد تولي شينزو آبي رئاسة الوزراء في عام 2012، العنان لتحولات كبيرة، حيث تم القضاء على العديد من الممارسات القديمة التي كانت تعيق تقدم الاقتصاد الياباني.
ونتيجة لهذه الإصلاحات، شهد الاقتصاد الياباني الذي كان راكدًا لفترة طويلة انتعاشًا ملحوظًا.
ثمار الإصلاحات الاقتصادية
من ثمار هذه الإصلاحات، ارتفع النشاط الاستثماري وعمليات الدمج بشكل لافت.
في عام 2023، وصلت عمليات إعادة شراء الأسهم إلى مستويات قياسية، حيث تعهدت الشركات اليابانية بإعادة شراء أسهم بقيمة تتجاوز 12 تريليون ين “أي ما يعادل 85 مليار دولار” خلال عام 2024، بزيادة 25% عن العام السابق.
ولاحظ المستثمرون الأجانب هذه الديناميكية الجديدة، فمنذ بداية العام وحتى أغسطس، بلغت مشترياتهم من الأسهم اليابانية 4.7 تريليون ين، أي حوالي 33 مليار دولار.
ولم يغب عن المشهد المستثمر الشهير وارن بافيت، الذي استثمر في أسهم شركات يابانية ذات قيمة منخفضة نسبيًا.
رغم هذه النجاحات، لا يزال أمام اليابان الكثير لتحسينه، لا سيما في مجال الاستغلال الأمثل لرأس المال.
التحدي الحالي يتمثل في أن القادة اليابانيين يتصرفون كما لو أن المهمة قد اكتملت، بينما تم ترك إصلاحات الحوكمة في أيدي البيروقراطيين، ولم تعد على رأس الأولويات السياسية.
أفضل دليل على أن الإصلاحات لم تكتمل بعد هو التقييمات المتدنية للشركات اليابانية، فمعدل السعر إلى القيمة الدفترية للشركات المدرجة لا يتجاوز 1.5، في حين أن نظيرتها الأمريكية تقيم بما يعادل خمسة أضعاف أصولها.
وتحتفظ الشركات اليابانية غير المالية بمبلغ ضخم يصل إلى 372 تريليون ين “أي ما يعادل 2.6 تريليون دولار” من السيولة والودائع المصرفية، وهي زيادة بنسبة 82% منذ عام 2012، ما يعكس اعتماد العديد من المديرين التنفيذيين على نجاحاتهم السابقة دون السعي إلى المزيد من التقدم.
تغييرات تُحسن الأوضاع
ومع ذلك، هناك بعض التغييرات السهلة التي يمكن أن تساهم في تحسين الوضع.
فقد اقترح “نيكولاس بينيس”، المحامي السابق وأحد مهندسي الإصلاحات الأخيرة، مجموعة من التدابير، من بينها إمكانية تحسين أداء المديرين الجدد من خلال تدريبهم على المهارات المالية والقانونية، بتكلفة منخفضة بالنسبة للشركات.
إضافة إلى ذلك، قد يسهل جعل الوثائق الرسمية قابلة للقراءة الآلية عمل المحللين والمستثمرين عند مقارنة الشركات، كما يمكن للمستثمرين الأجانب ترجمة هذه الوثائق إلى لغاتهم بسهولة أكبر.
من ناحية أخرى، هناك حاجة إلى تغييرات أكثر جرأة، فقد يكون بيع بعض الشركات اليابانية الشهيرة إلى مستثمرين أجانب قادرين على إدارتها بشكل أفضل خطوة ضرورية.
على سبيل المثال، تحاول شركة “أليمونتيشن كوش-تارد” الكندية العملاقة الاستحواذ على شركة “سفن آند آي هولدينجز”، المالكة لسلسلة متاجر “7-إليفن”.
وبالرغم من أن “سفن آند آي” رفضت العرض الأول الذي قدمته “كوش-تارد” بقيمة 38.5 مليار دولار، فإن إنجاح مثل هذه الصفقات قد يكون أمرًا ضروريًا.
من جهة أخرى، قد تستنتج بعض الشركات أن الاستثمارات غير المنتجة في اليابان يجب التخلي عنها، وهو ما يعني تسريح عدد من العمال.
فعلى سبيل المثال، أعلنت شركتا “توشيبا” و”أومرون”، وهما شركتان يابانيتان للإلكترونيات، عن تسريح آلاف الموظفين هذا العام.
ولا شك أن إدارة هذا التغيير وتوضيح ضرورته للجمهور تتطلب قيادة سياسية، لكن للأسف، يفتقر الساسة اليابانيون إلى الحماس اللازم لإجراء مزيداً من الإصلاحات الجديدة.
يأتي الدافع للتغيير اليوم من بورصة طوكيو للأوراق المالية، التي تطالب الشركات المدرجة بشرح كيفية رفع تقييماتها.
إضافة إلى ذلك، هناك ضغوط من الهيئات البيروقراطية مثل وكالة الخدمات المالية ووزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة، اللتين زادتا من متطلبات الحوكمة على الشركات والمستثمرين المؤسسيين.
وعلى الرغم من هذه الضغوط، بالكاد يتطرق المرشحون المحتملون لقيادة الحزب الديمقراطي الليبرالي -الذي حكم اليابان لفترات طويلة- إلى موضوع إصلاح الحوكمة.
مستقبل الإصلاحات
إذا لم يتمكن الساسة اليابانيون من استعادة بعض من حماسة الإصلاحات التي قادها شينزو آبي، فإن الأمل ضئيل في إجراء إصلاحات أكثر صعوبة، مثل جعل سوق العمل الياباني أكثر مرونة.
وإذا لم تتمكن الشركات اليابانية من استخدام رأس المال بشكل أكثر كفاءة، فستواجه البلاد تحديات كبيرة، خاصة مع تقدم المجتمع في السن، إذ يشكل الأفراد فوق سن 65 حوالي 30% من سكان اليابان، وهي أعلى نسبة في العالم.
في الوقت نفسه، تزداد التهديدات الأمنية من الصين، ما دفع اليابان إلى زيادة إنفاقها الدفاعي بنسبة 27% العام الماضي، ومن المتوقع أن تزيده بنسبة 17% هذا العام.
تعزيز الاقتصاد لمواكبة هذه الاحتياجات أمر حيوي، ولا يمكن ترك هذه المهمة العاجلة في يد البيروقراطيين وحدهم.