الدول الغربية تبني سلاسل توريد خاصة للكوبالت والليثيوم والنحاس
في مكتبه المتواضع بمدينة ووهان، يجلس شياو، أحد تجار الصلب، مستذكراً كيف نجا من انهيار أعظم الطفرات الاقتصادية في التاريخ الحديث.
فنصف منافسيه في هذا المجمع الصناعي، الذي شُيد قرب أول موقع لإنتاج الحديد في الصين، أعلنوا إفلاسهم بسبب أزمة العقارات التي استمرت ثلاث سنوات. أما المجمع ذاته، فهو محاط بهياكل خرسانية ضخمة لمشروعات عقارية غير مكتملة.
يقول شياو: “كان الانخفاض حاداً جداً في النصف الأول من العام الماضي”، مشيراً إلى تراجع أسعار حديد التسليح المستخدم في البناء لتدعيم الخرسانة.
ورغم محاولات الحكومة لتحفيز الاقتصاد منذ الخريف، إلا أن قطاع العقارات لم ينتعش بعد، “فالطلب لايزال ضعيفاً”، حسب ما نقلته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية.
ووهان، مهد صناعة الصلب الصينية، شهدت على مدى العقود الماضية نمواً هائلاً دفعها لتصبح الأكبر في العالم.
وكان حجم شهية الصين للصلب ملحمياً، إذ استهلكت خلال العقدين من عام 2000 إلى 2020 كميات من الصلب تعادل ضعف ما استهلكته الولايات المتحدة طوال القرن العشرين.
هذا التطور السريع في التصنيع والتحضر في الصين أطلق دورة سلعية هائلة، وقد أدت بدورها إلى رفع أسعار المواد الخام مثل خام الحديد والفحم المستخدم في صناعة الصلب إلى مستويات غير مسبوقة، وأثرت بشكل عميق على صناعات التعدين والطاقة العالمية.
مع تفشي جائحة كورونا، بدأت دورة السلع تتراجع، وبلغ هذا التراجع ذروته العام الماضي. فقد انخفض إنتاج الصلب في الصين إلى أدنى مستوى له في أربع سنوات، ومن المتوقع أن يواصل الانخفاض هذا العام.
كما أن استهلاك خام الحديد، المادة الأساسية لصناعة الصلب، شهد تراجعاً بعد أن وصل ذروته عام 2023، وفقًا لمجموعة “ماكواري”، وحتى الطلب الصيني على البترول، الذي كان يُتوقع أن يبلغ ذروته لاحقاً، يظهر مؤشرات على التراجع.
يقول ستيل لي، نائب رئيس شركة التعدين “سي إم أو سي”، إن ازدهار العقارات الذي كان يُغذي الاقتصاد الصيني انتهى، موضحاً أن “تلك المحركات الاقتصادية لن تعود مجدداً. على الصين الآن إيجاد محرك جديد بحجم مماثل”.
رغم تباطؤ الطلب الصيني على مدى السنوات الأخيرة، خاصة منذ جائحة كورونا، كانت هناك آمال بأن تؤدي حزم التحفيز الحكومية إلى انتعاش جديد، لكن قطاع الموارد الطبيعية تخلى الآن عن توقعاته بعودة طفرة البناء، مثل تلك التي صاحبت حزم التحفيز السابقة.
يختلف الخبراء حول التوقيت الدقيق لذروة الطلب الصيني، لكن كما يقول توم برايس، رئيس استراتيجية السلع في “بانمور ليبيروم”، إن “دورة السلع الصينية الكبرى انتهت بلا شك”.
بالنسبة للدول والشركات التي استفادت من هذه الدورة على مدى العشرين عاماً الماضية، يمثل هذا التغير تحولاً عميقاً ومؤلماً في بعض الأحيان.
يعلق جيمس كامبل، محلل الصلب في شركة “سي آر يو” المتخصصة في بيانات السلع، قائلاً: “هل هذه نهاية عصر؟ يبدو الأمر كذلك”، حتى مع الإجراءات التحفيزية الأخيرة، يضيف: “لا يوجد حقاً طريقة لإعادة إحياء الطلب على الصلب بقوة”.
رغم ذلك، يأمل بعض المسئولين التنفيذيين أن يتزامن انتهاء طفرة الصين مع بداية دورة جديدة، فقد وضعت الاستثمارات الضخمة في الطاقة النظيفة، سواء في الصين أو على مستوى العالم، الأساس لطفرة جديدة ومختلفة تماماً في السلع.
ستلعب المرحلة المقبلة دوراً كبيراً في طلب النحاس لتطوير شبكات الكهرباء، ومراكز البيانات، والطاقة المتجددة، بالإضافة إلى معادن أخرى مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل اللازمة لبطاريات السيارات الكهربائية.
لا يوجد نمو واقعي في الطلب على الصلب
يقول بيتر توث، رئيس الاستراتيجية في شركة “نيو مونت” الأمريكية المدرجة في البورصة والمتخصصة في تعدين الذهب، والذي عمل سابقاً في شركتي “بي إتش بي” و”ريو تينتو”: “نحن في مرحلة انتقالية بين دورات السلع الكبرى. نحن نخرج من دورة السلع الصينية وما زلنا على مشارف الدورة التالية، التي ستقودها الكهرباء، وتحول الطاقة والذكاء الاصطناعي”.
ومع ذلك، إذا بدأت طفرة جديدة في السلع، فستحدث في ظل اقتصاد عالمي مختلف تماماً، يتشكل بفعل المنافسة بين بكين وواشنطن.
تمثل دورة الصين في كثير من الجوانب ذروة عصر العولمة؛ حيث تمكنت بكين من الوصول إلى الأسواق المفتوحة لتغذية اقتصادها بخام الحديد من البرازيل، النحاس من الكونغو الديمقراطية، والبترول من السعودية.
لكن الطلب في الدورة القادمة سيكون أكثر تنوعاً جغرافياً، حيث تتنافس عشرات الدول للحصول على المواد الخام اللازمة لبناء بنى تحتية للطاقة المتجددة وشبكات الكهرباء، هذا التغير يعني أن المنافسة على الموارد النادرة ستلعب دوراً أكبر بكثير.
بالفعل، تسارع الدول الغربية لبناء سلاسل توريد خاصة بها بعيداً عن السيطرة الصينية، لتأمين مواد أساسية مثل الكوبالت والليثيوم والنحاس.
تحت إدارة الرئيس بايدن، بدأت الحكومة الأمريكية التدخل في بعض صفقات التعدين في أفريقيا بهدف توجيه السيطرة على الموارد الأساسية نحو الشركات المتحالفة مع الولايات المتحدة.
ومع احتمال عودة دونالد ترامب إلى السلطة، قد تصبح التوترات السياسية المحيطة بالطفرة الجديدة في السلع أكثر حدة.
يقول لي، من شركة “سي إم أو سي”، إن “التحدي الأكبر في المستقبل هو الجغرافيا السياسية. العالم يصبح أكثر انقساماً… وهذا هو المشكلة الأساسية”.
عندما بدأت دورة السلع الكبرى السابقة عام 2000، كانت حدة الطلب مفاجئة للجميع.
يتذكر بيتر توث، المدير التنفيذي في قطاع التعدين الذي انضم إلى “بي إتش بي” عام 1994، أن “الصين ظهرت وغيّرت كل شيء بشكل كامل”.
حققت شركتا التعدين العملاقتان “بي إتش بي” و”ريو تينتو” أكثر من 100 مليار دولار من الأرباح التشغيلية من خام الحديد خلال الفترة بين عامي 2000 و2020.
ويُمازح البعض في قطاع التعدين بأنهم كانوا “يستخرجون المال من الأرض”.
لكن الآن، العوامل الهيكلية والديموجرافية التي دعمت تلك الطفرة، مثل التحضر والتصنيع السريع في الصين، أصبحت أقل قوة.
فعلى أساس نصيب الفرد، تجاوزت الصين بالفعل مستوى استهلاك الصلب السنوي للولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة، كما أن الهجرة الضخمة إلى المدن، التي شهدت انتقال نصف مليار شخص من المناطق الريفية إلى الحضر خلال سنوات الطفرة، بدأت بالتباطؤ.
يقول ماركوس جارفي، رئيس استراتيجية السلع في “ماكواري جروب”: “وصلنا إلى ذروة الطلب على الصلب في الصين. من الناحية الهيكلية، لا يوجد نمو واقعي في الطلب على الصلب”.
ويتوقع أن يدور إنتاج الصلب في الصين حول المستويات الحالية البالغة مليار طن سنوياً، مع تعويض الصادرات لانخفاض الطلب المحلي.
شهدت الصين جولات سابقة من التحفيز الاقتصادي، بما في ذلك أعوام 2009، و2013، و2016، ضخت خلالها الأموال في الصناعات الثقيلة وقطاع البناء، مما عزز صناعة الصلب مراراً وتكراراً، لكن هذه المرة مختلفة.
ففي أواخر سبتمبر، أعلنت بكين عن مجموعة من إجراءات التحفيز تهدف إلى مساعدة الحكومات المحلية على تقليل ديونها، إنقاذ سوق العقارات، وتخفيف السياسات النقدية.
ورغم أن بعض هذه الإجراءات تستهدف البنية التحتية أو تحفيز الاستهلاك لتجنب الركود الاقتصادي، إلا أن منها لن يكون له التأثير الكبير ذاته على صناعة الصلب.
يؤكد معظم الاقتصاديين أن الصين تحتاج الآن إلى إعادة توازن اقتصادها نحو استهلاك الأسر والخدمات، وأن العودة إلى تحفيز البناء بشكل مكثف للصناعات الثقيلة أمر معاكس تماماً لما يتطلبه هذا المرحلة من تطورها.
لجأت العديد من مصانع الصلب الصينية إلى زيادة الصادرات لتعويض ضعف الطلب المحلي.
العام الماضي، وصلت صادرات الصين من الصلب إلى 111 مليون طن، وهو أعلى مستوى لها في تسع سنوات.
ومع ذلك، فإن تصاعد التوترات التجارية، بما في ذلك مع الولايات المتحدة، يحد من فرص زيادة هذه الصادرات بشكل أكبر، كما اتجهت بعض مصانع الصلب إلى إنتاج المزيد من منتجات الصلب المسطح، المستخدمة في قطاعات السيارات والتصنيع، والتقليل من إنتاج الصلب الطويل المستخدم في البناء، ونما قطاع التصنيع، بما في ذلك صناعة السيارات، ليشكل ما يقرب من نصف الطلب على الصلب في الصين.
تقول فيفيان يانج، رئيسة التحرير في “ماي ستيل”، وهي شركة بيانات سلعية مقرها شنغهاي: “هذا العام سيظل قطاع التصنيع المحرك الرئيسي لدعم الطلب الإجمالي على الصلب في الصين. لكن لا يزال قطاع العقارات يشكل عائقاً رئيسياً”.
وتتوقع أن ينخفض استهلاك الصين من الصلب بنسبة تتراوح بين 2-3% هذا العام، بعد انخفاضه بنسبة 3% العام الماضي.
أُجبرت بعض مصانع الصلب الصينية على الإغلاق تماماً، فيما أظهر استطلاع أجرته “ماي ستيل” هذا الشهر أن نحو 50% من مصانع الصلب في الصين تعاني من خسائر مالية.
على الصعيد العالمي، لا تستطيع بقية الدول تعويض الانخفاض في الطلب الصيني.
ورغم أن الطلب في الهند، ثاني أكبر منتج للصلب في العالم، يشهد نمواً، إلا أن إنتاجها السنوي المحلي لا يزال يعادل ثُمن إنتاج الصين فقط.
يقول كامبل، المحلل في “سي آر يو”: “على العالم أن يعتاد على معدلات نمو أبطأ”، ويتوقع أن يتباطأ نمو الطلب العالمي على الصلب إلى 0.6% سنوياً بين الآن وحتى عام 2050، مقارنةً بمتوسط نمو بلغ 2% سنوياً خلال العشرين عاماً الماضية.
تشهد أسعار خام الحديد تراجعاً مستمراً، ومن المتوقع أن تستمر في الانخفاض، كما يتوقع جارفي، من “ماكواري”، أن يبلغ متوسط سعر خام الحديد 80 دولاراً للطن العام المقبل، مقارنةً بنحو 140 دولاراً للطن في بداية عام 2024.
على الرغم من معاناة مصانع الصلب، هناك بوادر أمل في قطاع الموارد بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بالنحاس، المعدن الحيوي للتحول الطاقي.
خارج الصين، بدأت شركات التعدين التي جنت ثرواتها من بيع المواد الخام خلال طفرة العقارات الصينية في إعادة توجيه نفسها بسرعة نحو ما تأمل أن يكون طفرة جديدة للنحاس.
العام الماضي، قدمت شركة “بي إتش بي” عرضاً بقيمة 39 مليار جنيه إسترليني للاستحواذ على “أنجلو أمريكان”، بهدف الوصول إلى أصولها في النحاس.
كما أنفقت شركة “ريو تينتو” ما يقرب من 7 مليارات دولار للاستحواذ على شركة الليثيوم “أركاديوم”، استجابةً للطلب المتزايد على بطاريات السيارات الكهربائية.