بقلم: فيليب ستيفينز
ظهر قطاع جديد فى الغرب ألا وهو النشاط المزدهر لتقدير المخاطر الجيوسياسية ، ومن السهل رؤية سبب هذا الازدهار، فنظرة سريعة حول العالم تكشف النيران المشتعلة فى الشرق الأوسط، وتوغل روسيا فى أوكرانيا، والاضطرابات فى شرق آسيا بسبب صعود الصين، وتعد هذه الصراعات والاضطرابات أكثر من مجرد صدفة غير سعيدة، فهى مهدت الطريق للفوضى الممنهجة.
وتفاءل الغرب ورحب بانهيار الشيوعية بسبب استناده إلى مجموعة محددة من الافتراضات، ولكن العالم أصبح مكاناً أكثر خطورة وأقل قابلية للتوقع خلال الـ25 عاماً الماضية بسبب عدم تحقق هذه الافتراضات.
وأول هذه الافتراضات هو دوام السلام الأمريكي، فهل تذكرون التعليقات الحماسية بشأن الهيمنة المنيعة للولايات المتحدة؟ ففى بداية الألفية الجديدة افترضت واشنطن- واتفق معها معظم الخبراء- على أن القوة الكبرى العالمية الوحيدة سوف تضع شروط العلاقات الدولية فى معظم القرن الواحد والعشرين، ورغم أنه سيكون هناك بعض التعديلات لاستيعاب القوى الجديدة، فسوف تظل الولايات المتحدة الضامن الوحيد للسلام.
ومما لا شك فيه أن المؤرخين سوف يختلفون فى تحديد متى بالضبط تحطم هذا الوهم، فالفوضى التى تلت الصدمة والهلع فى العراق بمثابة مثال توضيحي جيد، فقد رسمت الحروب فى أفغانستان والعراق حدوداً للقوة الأمريكية، وقد فعلت ذلك فى الوقت الذى كانت تنمو فيه الصين والهند وغيرهما بوتيرة سريعة.
ولم تفعل الحرب على الإرهاب سوى تحديد أوجه القصور فى القوة العسكرية، وحطم معتقلو أبوغريب وجوانتانامو فكرة أن أمريكا ستكون دائماً قوة مهيمنة حميدة.
وقد تكون نظرية انحسار القوة الأمريكية مبالغاً فيها، وهناك مقال رائع يتساءل هل انتهى قرن الهيمنة الأمريكية؟ وأشار فيه جوزيف ناي، الأستاذ فى جامعة هارفارد، إلى نقاط القوة الأمريكية الحالية وهى تلك الاقتصادية، والديموجرافية، والجغرافية والعسكرية، كما ذكّرنا كيف أن ثورة الزيت الصخرى قلبت العديد من التوقعات بانحسار أمريكا.
ومع ذلك، تتمثل حقيقة الأمر فى أن الولايات المتحدة فى القرن 21 لن تمتلك القدرة ولا الإرادة لتغيير النظام الجغرافى السياسى كما فعلت فى القرن العشرين، وبسبب الضجة التى يحدثها الجمهوريون فى الكونجرس حالياً، سيضطر الرؤساء القادمون إلى تتبع خطى الرئيس باراك أوباما فى إدارك القيود التى يفرضها العالم متعدد الأقطاب.
أما الافتراض الخاطئ الثانى فكان فى أوروبا، نظراً لأن اليورو كان معنياً باستكمال عمل الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، واستبدال الجراح العميقة التى سببتها القوميات المتنافسة بنموذج التكامل العميق، وتم تحديد حدود أوروبا للأبد وقالت القارة وداعاً للحرب.
وكانت تكمن فكرة الاتحاد فى تصدير النموذج الأوروبى ما بعد الحداثة لجيران القارة أولاً فى الشرق ثم لبقية العالم الصاعد، ونجحت الفكرة لفترة من الوقت، كما ظهر فى اصطفاف الدول التى كانت شيوعية يوماً ما للانضمام للنادى الديمقراطي.
والآن، يُنظر إلى اليورو على أنه مشروع نصف مكتمل، ونوايا تفتقر للأسس السياسية والاقتصادية الحيوية، وحتى بعد أزمة السنوات الماضية، ما زلت غير مقتنع بإمكانية بقاء اليونان فى اليورو، كما أن الحكومات تحجم عن جمع ضمان سيادى كاف لتأمين مستقبل العملة الموحدة.
ولا يقتصر ظهور القومية على المجادلات بشأن الديون والعجوزات، فقد ازدهر الشعبويون من اليمين واليسار فى جميع أنحاء أوروبا، ويطالبون الحكومة بإغلاق الباب أمام عمليات النهب باسم العولمة.
وهنا يكمن الافتراض الزائف الثالث فى أن الترابط الاقتصادى سوف يقلل التنافس الوطني، وسيجعل سلاسل التوريد العالمية أكثر كفاءة، وبدلاً من ذلك، رأينا عودة التنافس القومى فى انتقام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وفى النزاعات الإقليمية بين الصين وجيرانها فى الشرق وبحر الصين.
وإذا كان للأوروبيين أفكار أخرى بشأن نموذج التكامل ما بعد الحداثة، فالقوى الصاعدة الأخرى لم يرق لها أبداً فكرة مشاركة السيادة الوطنية، أما فى الشرق الأوسط، فيأتى التهديد من انهيار الدول، وفى آسيا من التنافس بين الدول.
إذن، كيف يمكن أن يستجيب قطاع الأعمال لهذه الزيادة فى المخاطر السياسية؟ لا يزال الكثيرون يختارون تجاهلها، وبدلاً من ذلك يقلقون بشأن تسعيرات المنافسين، والنمو الاقتصادي، والقواعد التنظيمية، وتعلّم المستثمرون فى روسيا والمصدرون لها أن عدم تقدير المخاطر السياسية له تكلفة. وينبغى على الشركات أن تفهم أن العالم تغير، ورغم أن عصر الحرب الباردة كان خطيراً، ولكنه كان مستقراً، وإذا كان للشركات أن تحقق أرباحاً فى عالم محسوب فيه المخاطر السياسية، فهناك أموال يمكن حفظها عند فهم هذه المخاطر.
إعداد: رحمة عبدالعزيز
المصدر: صحيفة «فاينانشيال تايمز»