مفاوضات شاقة حول شروط الخروج وانهيار مستقبل «كاميرون» السياسى
ارتباك فى الأسواق واجتماعات طارئة للمركزى الأوروبى والإنجليزى
الساعات الأولى
ديفيد كاميرون محطم وقيادته للحكومة باتت محل تكهنات، وليس لديه خيار سوى أن يدلى ببيان خارج 10 داوننج ستريت، مقر الحكومة، يتضمن إعلان احترامه لرغبة الشعب البريطاني. فى الوقت نفسه، يبدأ كل من وزارة الخزانة وبنك إنجلترا المركزى والبنك المركزى الأوروبى التحرك بسرعة لخوض معركة خفية وفق خطط جيدة بما يكفى لمنع الفوضى فى السوق.
الطبقة السياسية الأوروبية المصدومة نفسها تصارع الطلاق الذى لم يسبق له مثيل فى ظل فوضى مترامية الأطراف قد تستمر سنوات.
الاتحاد الأوروبى يتجاوب، كما هو الحال مع أى أزمة، ويعقد قمة طارئة، فى وقت مبكر ربما قبل إجازة نهاية الأسبوع.
ومع بداية صباح اليوم من الواضح أن أزمة جديدة بدأت بالفعل رغم أن إجراءات الخروج البريطانى معروفة قواعدها الأساسية فى القانون، لكن السياسة والإطار الزمنى سوف يأخذان القضية إلى حافة الهاوية، وستكون الأوضاع قابلة للانفجار، وهو ما يجلب شكوكاً عميقة ونزاعات جديدة بين أوروبا والمملكة المتحدة.
فعلى سبيل المثال، فإن مسئولى لجنة الاتحاد الأوروبى سيسارعون إلى معاملة بريطانيا مثل المتسول، ويتحدثون عن رميها للخارج، وقد حذر جان كلود يونكر، مفوض الاتحاد بالفعل من أنه لا يمكن استقبال الفارين بأذرع مفتوحة.
فى المقابل، يقول مصدر بريطانى، إنه من مصلحة بلاده أن تقوم بالانفصال فى أسرع وقت ممكن، فليس هناك رغبة فى التفاوض على شروط جديدة فى العامين الأولين.
لكن الفريق الآخر وبشكل رئيسى الداعمون للانفصال يرون أن كروت اللعبة ليست جميعها فى يد الأوروبيين، معتبرين أن خطوة الطلاق من أوروبا ليست صعبة كما يصورها البعض.
عطلة نهاية الأسبوع (24- 26 يونيو)
فور تلقى المسئولين فى بروكسل الضربة القاضية بسرعة بدأت مناقشة عمليات خروج بريطانيا، والتداعيات المترتبة عليه باعتباره حدثاً فريداً يشبه نوعاً ما خروج جرين لاند بالحصول على الحكم الذاتى، والجزائر باستقلالها عن فرنسا.
وقد تم وضع المسار القانونى الوحيد للخروج من الاتحاد الأوروبى بشكله الحالى من خلال المادة 50 التى تم إدراجها فى معاهدة لشبونة عام 2009. ويسمح ذلك القانون لأى بلد بالتفاوض على شروط خروجه من لحظة أن يتم إخطار الاتحاد الأوروبى نيته مغادرة التكتل، حيث لا يعد إعلان نتيجة التصويت إخطاراً رسمياً. وبالنسبة لمن يفضلون لعبة كسب الوقت يقولون إنه يجب السماح بفترة ستة أسابيع لمناقشة قانونية نتيجة الاستفتاء حتى تكون فى مأمن من أى تدخل قانونى من أى طرف.
ولكن بمجرد إرسال الإخطار، فإن المفاوضات لا يمكن أن تمتد لأطول من سنتين وفقاً للقواعد، ما لم تتفق جميع الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى المتبقية على هذا التمديد بخلاف بريطانيا، ما يعنى أن معارضة دولة واحدة تجبر حكومة لندن على تنفيذ الخروج فى نهاية العامين، ويمكن للمملكة المتحدة خلال العامين العدول عن قرار المغادرة، خصوصاً إذا كانت الصفقة التى يقدمها الاتحاد الأوروبى سيئة للغاية، فلا شيء فى معاهدة الاتحاد الأوروبى يمنع الحكومة من الذهاب مرة أخرى إلى البرلمان المؤيد فعلياً للبقاء للحصول على استفتاء ثان.
الأسبوع الأول
من الطبيعى أن تركز استجابة الاتحاد الأوروبى الغريزية لتصويت المملكة المتحدة للخروج فى الحفاظ على الذات، فمن المرجح أن نشاهد ما يعادل «لحظة دراجي»، حيث أعلن رئيس بنك المركزى الأوروبي، ماريو دراجى عن قمة طارئة، وقال إنه سيفعل كل ما يلزم لإنقاذ منطقة اليورو.
ومع نشوب حالة من الاضطراب فى الأسواق وزيادة جرأة المشككين فى جدوى الاتحاد الأوروبى فى جميع أنحاء القارة، فإن الطبقة السياسية الأوروبية تريد إعلاناً مشتركاً يؤكد التصميم على مواصلة العمل للحفاظ على التكتل الأوروبى لتصبح أوروبا أكثر تكاملاً.
وسوف تبدأ الانقسامات فى الظهور، فالبلدان ذات العلاقات القوية مع المملكة المتحدة مثل مالطا وقبرص وبولندا قد تكون حذرة فى الإعلان عن موقفها. كما أن سلوفاكيا التى ستتولى رئاسة المجلس فى النصف الثانى من عام 2016، غير راغبة فى رؤية المملكة المتحدة وهى ترحل.
ومن المنتظر أن تميل بروكسل إلى الخشونة فى معاملة بريطانيا بحيث يتم إظهار الخروج من الاتحاد كخيار باهظ الثمن بدلاً من تشجيع الدول الأخرى على خطوات مماثلة إذا تم التعامل بسهولة مع لندن، وسيكون ذلك ضرورياً لمنع انتقال العدوى كما يقول أحد المسئولين فى الاتحاد الأوروبي.
ويواجه الفرنسيون والألمان على وجه الخصوص تحديات من المشككين فى جدوى الوحدة الأوروبية، خاصة فى موسم الانتخابات عام 2017. وتنتظر الدول التعرف على نوع العلاقات المستقبلية بين أوروبا والمملكة المتحدة وتحديداً وصولها إلى السوق المشتركة واستمرار حرية حركة العمالة.
قال أندرو داف، العضو السابق فى الحزب الليبرالى الديمقراطى الذى ساعد فى وضع المادة 50 المتعلقة بالخروج من الوحدة الأوروبية، إن الاتحاد الأوروبى لا يمكن أن يسمح لدولة الانفصال بأن تدير الأمور على مدى طويل جداً، فهذه المادة من المعاهدة تضع معظم بطاقات اللعبة فى أيدى أولئك الذين اختاروا البقاء.
وبحلول نهاية الأسبوع، قد تجد بريطانيا نفسها مستبعدة من بعض اجتماعات الاتحاد الأوروبى، حيث تدرس الـ27 دولة المتبقية كيفية تنظيم مفاوضات الانسحاب، على أساس المقترحات المقدمة من اللجنة التنفيذية.
بعد مرور أسبوعين
بالنسبة للأوضاع فى داخل المملكة المتحدة، فإن «كاميرون»، إما أن يقع على سيفه حيث انتهت حياته السياسية فيبدأ صراعاً على الزعامة ينطلق من نقطة الاضطراب الاقتصادي، وإما يقول إنه يجب البقاء للتفاوض على الخروج ربما لفترة تمتد للخريف المقبل.
وكان كاميرون قد أعلن أنه فور ظهور نتيجة التصويت بنعم للمغادرة، فإنه سيبدأ فوراً العمل وفق المادة 50؛ لأن الشعب البريطانى يتوقع أن يبدأ العمل على الفور.
وسبق أن أكد جورج أوزبورن، وزير المالية، أن البداية السريعة مهمة بشكل حاسم، فالطريق الوحيد للاتحاد الأوروبى نفسه هو ما لديه من أساس قانونى للتفاوض للخروج من خلال المادة 50، مشيراً إلى طلقة البداية بعد أسبوعين.
ومع ذلك يحذر دومينيك كامينجز، مدير حملة للتصويت للمغادرة من أن التحرك الفورى وفق المادة 50 سيكون جنوناً مثل وضع مسدس فى فمك والضغط على الزناد.
وفى الوقت نفسه، يدعى مايكل جوف، أن تصريحات كاميرون وأوزبورن تحتاج لتصفيتها من خلال منظور حملة الاستفتاء حيث تهدف إلى بث الخوف بين صفوف المواطنين الداعمين للخروج.
وفى الواقع، فإن الهزيمة فى الاستفتاء ستعنى وضع السلطة السياسية لكاميرون وأوزبورن فى مهب الريح.
الأوضاع خلال الأسابيع القليلة التالية
بعد أن يتلقى مجلس العموم البريطانى قذيفة من العيار الثقيل بتصويت الشعب لصالح الخروج من أوروبا، فإنه بعد مرور عدة أسابيع عليهم التماسك لمواجهة الأزمة مع قدر من التأنى والحكمة فى التعامل.
من وجهة كامينجز يحتاج الأوروبيون فترة من الوقت تمتد عبر موسم الصيف على الأقل للاعتراف بأن من مصلحتهم الذاتية الاحتفاظ بعلاقة تجارية وثيقة مع المملكة المتحدة حيث يتركز النقاش حول استمرار العضوية فى السوق المشتركة، ومع الحفاظ على حرية التنقل لمواطنى الاتحاد الأوروبي.
لكن أجاتا جاكوبافيسكا، مديرة مركز تايد إصلاح الاتحاد الأوروبى، ترى أن تأخير الاتفاق لفترة طويلة جداً قد يكون غير مقبول لشركاء الاتحاد الأوروبى؛ لأنه يعنى تآكل حسن النية وضعف مركزهم التفاوضى أمام الإنجليز.
حتى سياسياً بريطانيا لن تكون قادرة على تأخير التوصل لاتفاق إلى الأبد، فبحلول الخريف سيكون هناك ضغط هائل لتنفيذ المادة 50.
فى خريف 2016
وبمجرد أن يضغط مجلس وزراء الاتحاد الأوروبى على الزناد ببدء تطبيق المادة 50 من المؤكد الآن أن خروج بريطانيا قيد التنفيذ، وسيكون النطاق الكامل للمهمة التى تواجه الحكومة البريطانية واضحاً. وسيتعين على بريطانيا إعادة التفاوض على 80 ألف صفحة من اتفاقيات الاتحاد الأوروبى، والبت فى تحديد تلك التى سيتم الاحتفاظ بها والأخرى التى ستمزق. ويتهامس مسئولون بريطانيون فيما بينهم أنه لا أحد يعلم كم من الوقت سيستغرق الأمر لكن بعض الوزراء يتوقعون انشغال البرلمان بالموضوع لسنوات طويلة فخروج جرينلاند، التى يبلغ عدد سكانها 55 الف نسمة استغرق عامين للتفاوض بعد حصولها على الحكم الذاتى.
كثيرا ما يشير مؤيدو الخروج إلى أن التفاوض فى مجالات الزراعة أو صيد الأسماك سهل نسبيا، ولكن 60% من صادرات الطعام والشراب، ومن الأسماك من المملكة المتحدة تذهب إلى الاتحاد الأوروبى. واستغرق الاتحاد الأوروبى والنرويج أربعة أشهر للتفاوض على اتفاق مصائد الأسماك. لكن نظرا لحجم الصادارت البريطانية قد يستغرق الأمر عاما كاملا.
وقال مسئول بريطانى رفيع المستوى: إن الجواب الصادق هو أنه لا أحد يعلم كم من الوقت سيستغرق التفاوض.
توقعات شتاء 2016
أحد السيناريوهات المطروحة هى أن المجموعة الأولى من المفاوضات المحيطة بالانسحاب ستكتمل خلال عامين فقط وسوف تغطى قضايا، مثل مدفوعات ميزانية الاتحاد الأوروبى المتبقية من وإلى بريطانيا والحقوق المكتسبة لمواطنى المملكة المتحدة فى أوروبا والحقوق المتبادلة بين مواطنى الاتحاد الأوروبى فى المملكة المتحدة، والمعاشات التقاعدية للبريطانيين من موظفى الخدمة المدنية فى الاتحاد الأوروبى ونقل وكالات الاتحاد الأوروبى التى مقرها فى بريطانيا.
ومع ذلك فهناك قضايا ستجرى مناقشتها على المدى الطويل مثل العلاقات التجارية فى المستقبل، بما فى ذلك الرسوم الجمركية، ومن المرجح أن يتم التعامل معها بشكل منفصل.
بداية عام 2017
من المتوقع أن تكون مفاوضات المغادرة قد دخلت مرحلة طاحنة فحالة التفاؤل التى تروج لها حملة الخروج من الاتحاد الأوروبى إزاء صفقات جديدة حول التبادل التجارى لا أساس لها من الصحة.
قال ماثيو إليوت، الرئيس التنفيذى لحملة الانسحاب من التكتل الأوروبى إن بلاده ستكون قادرة على التجارة مع السوق الموحدة وفقا لشروط التجارة الحرة، من دون دفع أموال عضوية أو قبول حرية التنقل لمواطنى الاتحاد، مشيرا الى أن هناك فرصة للتوصل لاتفاق جيد حول الرسوم الجمركية خاصة أن المملكة المتحدة فى وضع جيد بفضل عجزها التجارى الضخم مع الدول الكبرى فى الاتحاد الأوروبى.
وأضاف إليوت أنه لا يستطيع أن يتخيل بعد يوم من تصويت بريطانيا للخروج أن يتم السماح للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بإرسال سيارات بى إم دبليو أو سلع الشركات الأخرى للسوق البريطانية، كما كان معتادا ونفس الحال لمنتجات المزارعين الفرنسيين، وشركات الأزياء الإيطالية.
ويقول آخرون إن هذه الأفكار تعبر عن إفراط فى التفاؤل فعلى سبيل المثال اشار كاميرون إلى أن 44% من صادرات المملكة المتحدة تذهب إلى الاتحاد الأوروبى، فى حين أن 8% فقط من صادرات الاتحاد تذهب فى الاتجاه الآخر. باختصار فإن بريطانيا هى أيضا فى أمس الحاجة للاتفاق.
وسيكون من الصعب التوصل إلى اتفاق تجارة الخدمات خاصة الخدمات المالية الحرجة فى وقت تسعى فيه دول، مثل فرنسا وايرلندا لاستغلال الفرصة لإنهاء هيمنة مدينة لندن، والاستيلاء على الأعمال التجارية.
وفى نفس الوقت فإن مفاوضى بريطانيا سوف يجدون أنه من الصعب الحصول على اتفاق تجارى جيد مع دولة، مثل الصين وهى خارج الاتحاد الأوروبى، حيث تفضل بكين اتفاقا يشمل 28 دولة دون تمييز لصالح دولة منفردة.
من جهة أخرى سيسعى البرلمان البريطانى إلى فرض نفسه مطالبا الحكومة بتوقيع اتفاق أوثق مع الاتحاد الأوروبى أكثر مما يظن من دعوا للخروج، وهو ما يعنى اتفاق أكثر ارتباط من نماذج النرويج وأيسلندا وليختنشتاين، والتى هى أعضاء فى المنطقة الاقتصادية الأوروبية فقط أو النظام السويسرى، الذى يقوم على سلسلة من المعاهدات الثنائية فى عدة مجالات.
وفى حال لم يتم التوصل لاتفاق تجارة سيثير ذلك القلق على نحو متزايد فى المملكة المتحدة، التى لن يكون لديها خيار سوى التعامل مع بقية أوروبا وفقا لقواعد منظمة التجارة العالمية.
وعبرت لجنة الشئون الخارحية بمجلس العموم مؤخرا عن توقعاتها للآثار المترتبة على ذلك قائلة، إنه إذا كان لا يمكن التوصل إلى أى اتفاق خلال فترة العامين، فإن المملكة المتحدة سوف تنتقل إلى تبنى قواعد العلاقة القياسية لمنظمة التجارة العالمية.
تطورات الأحداث فى نهاية إلى 2017 وبداية 2018
فى تلك الفترة ستكون الانتخابات الفرنسية والألمانية قد انتهت وقد تعانى الأحزاب المناهضة للوحدة الأوروبية ربما بسبب الصعوبات الظاهرة، التى ستشهدها المملكة المتحدة فى مفاوضاتها، حيث ستظهر عيوب الحياة خارج الاتحاد الأوروبى للناخبين الفرنسيين والألمان.
دعونا نتخيل الوضع فى هذا الوقت بافتراض أن الاتحاد الأوروبى مارس لعبة قاسية مع المملكة المتحدة والموعد النهائى لاتفاق الخروج بات وشيكا وساعتها فإن محادثات اللحظة الأخيرة ستكون قيد النهاية مما سيدفع رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون (حال فوزه بالانتخابات العامة) إلى التاكيد على أنه لن يفوت الفرصة للتوصل لاتفاق يحقق مصلحة بلاده. لكن أوراق المساومة قليلة فى يد لندن مما سيضطره إلى توقيع اتفاق بشروط صعبة لخروج المملكة المتحدة ولكن العلاقات التجارية فى المستقبل غير واضحة. وافتراضيا سيعنى الاتفاق توقف عضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى وسوف تجرى التجارة مع أوروبا وفقا لقواعد منظمة التجارة العالمية خارج السوق الموحدة مما يعنى فرض الرسوم الجمركية على الصادرات الإنجليزية.
استغرق الأمر 12 عاما لانضمام المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبى، وسوف يستغرق فترة طويلة أيضا للمرور عبر بوابة الخروج.