فى وقت تشهد مصر خلاله حالة من السخط المبرر فى الشارع؛ نتيجة اتخاذ قرارات اقتصادية شديدة حزمة واحدة، يجب أن يعلو صوت العقل لتمييز دوافع لك القرارات. هل هى قرارات تهدف إلى إثراء مجموعة من المنتفعين على حساب الشعب، فيحق للناس أن يثوروا على تلك الأوضاع؟ أم أن الغرض منها هو اتخاذ مسار إصلاحى، يهدف فى النهاية إلى تحسين أوضاع الدولة على مستوى مؤشراتها الكلية، ورفع مستوى معيشة الفرد؟ الإجابة بلا شك هى المسار الإصلاحى، لكن هذا لا يعنى ألا نختلف على صحة ذلك المسار، وعلى أولويات خطط الإصلاح بل وعلى رؤية واستراتيجيات الإصلاح الاقتصادى الذى تتبناه الحكومة.. كل ذلك مشروع ومنطقى، ولا يتضمن مساراً أو نهجاً ثورياً، بل نهجاً إصلاحياً يبدأ بالحوار مع الحكومة، ومحاولة ترشيد قراراتها، ويصل إلى حد المطالبة بتغييرها هى ومحافظ البنك المركزى إذا ثبت فشل النهج الذى سلكاه آنفاً، على ألا يكون الفشل محض نية مبيتة لدى البعض المؤثر، وأن تكون المطالبة عبر قنوات شرعية، أبرزها الضغط على مجلس النوّاب الذى نعرف اليوم أكثر من أى وقت سابق أهمية أن يأتى انتخابه معبراً عن الشعب بإرادة مستقلة وكتلة ناخبين كبيرة.
هذه مقدّمة أردت بها التأكيد على أن دوافع الإصلاح بدت منزّهة عن أى غرض، وبعيدة عن دغدغة مشاعر بعض الفئات أو كسب أصوات انتخابية، وإلا ما كانت لتخرج صادمة إلى هذا الحد! ولما كان حرص رئيس الوزراء على الاجتماع بنخبة من الاقتصاديين ونخبة من الكتّاب بغرض تشريح الوضع الاقتصادى، والبحث عن مخرج من الأزمات المتلاحقة قبل صدور القرارات الصادمة، وقد حاولت الحكومة التحرّك فى اتجاه تحقيق بعض التوصيات عقب الاجتماعات مباشرة، مشددة على ترشيد الإنفاق الحكومى، وضرورة رفع كفاءة الأداء الإدارى والمؤسسي، وإن كانت القرارات المتخذة رمزية فى هذين الاتجاهين، لكن التحرّك السريع من الحكومة يكشف عن نوايا صادقة على الأقل.
أكاد أسمع من يقول إن النوايا الصادقة لا تكفى لبناء الأمم، وأنا أتفق بل ولى تحفظات كثيرة على تفاصيل القرارات المتخذة خاصة مع تأخر توافر شبكة موثوقة للضمان والحماية الاجتماعية بغرض استيعاب التداعيات السلبية للقرارات، ومع استمرار تكشّف حقائق مخيفة بشأن هدر وتبديد الدعم الموجه إلى سلعة واحدة وهى القمح، دون تحرك لحصر سائر أوجه الهدر فى مختلف الصوامع حتى اليوم (وفقاً لتصريح وكيل اللجنة الاقتصادية بالبرلمان)! وإذا كان رفع الدعم هو العلاج الحكومى السريع للتخلص من سرقته وتبديده، فما أشبه هذا الحل بقتل الخنازير للتخلّص من عدوى أنفلوانزا الخنازير، وإلغاء التقاطعات لمنع المخالفات المرورية، وغلق الصرافات لمنع السوق السوداء!! الخلاف إذن قائم وعميق حول جدوى الحلول ومقترحات العلاج حتى وإن اتفقنا مع الحكومة على التشخيص، لكنه يظل خلافاً تقديرياً وفنياً بل وسياسياً ينبغى التعامل معه بأدوات إصلاحية وليست ثورية أو فوضوية لن تزيد الوضع إلا سوءاً.
القرارات النقدية والمالية التى أصبحت نافذة، يتحتم علينا احترامها ومحاولة تعظيم العائد منها قدر المستطاع، وليس التربّص بها بغرض إفشالها أو حتى التشفى فى فشلها من تلقاء نفسها! ثم علينا نحن الخبراء ومن ورائنا الشعب مواصلة النضال لطرح البدائل الأقل ضرراً والأمضى نفعاً.
ما حدث أن البنك المركزى وبعد فترة ترقّب طويلة ثم فترة تجميد أطول اتخذ قراراً أراه عبارة عن تعويم مدار مشروط باستقرار المستوى العام للأسعار (استهداف التضخم)؛ لأن هذا هو هدف السياسة النقدية.. أى أن سعر الدولار سوف يتحدد فى بورصة (فوركس) بين البنوك عبر آلية حرة (إنتربنك) مع استخدام سعر فتح استرشادى لهذا التداول الحر عند 13 جنيهاً مصرياً مع وضع حدود سعرية لا تزيد على 10% ارتفاعاً وانخفاضاً حتى الساعة الواحدة بعد ظهر جلسة الفتح، مع رفع كثير من القيود على تداول الدولار سحباً وإيداعاً، ومع الإبقاء على القيود غير المنطقية على تعاملات الدولار باستخدام بطاقات الخصم كما هى!!..الحدود السعرية التى وضعها المركزى مؤقتاً وأكد أن التعويم حر تماماً (فى رسالة واضحة لصندوق النقد) أعتقد أنها آلية قابلة للاستمرار، وسيلجأ إليها المركزى مرة أخرى خلال الأيام المقبلة. كذلك لن يكون بمقدور الدولة التخلّى عن دورها فى تقديم دولار جمركى مدعوم بغرض استيراد الدواء والغذاء الضرورى ومستلزمات الإنتاج الأساسية، إما بفرض سوق مزدوج two tiers market أو على الأقل بدعم المستوردين بالفرق بين السعر الحر والسعر الرسمى القديم للحفاظ على أسعار تلك المواد (حتى لا تغضب لاجارد من السوق المزدوج!) وهذا أيضاً وجه من وجوه إدارة التعويم.
أعتقد أن الثلاثة أشهر القادمة حاسمة فى استقرار سعر صرف الدولار، وهنا تأتى أهمية مبادرة اتحاد الغرف التجارية فى الالتزام بتخفيض الواردات، والكرة انتقلت إلى ملعب الحكومة من أجل مواكبة تلك الحركة العنيفة على مستوى الاقتصاد الحقيقى وتحديداً عبر جذب السياحة والاستثمار وحفز التصدير وضبط المنافذ الجمركية.. لكن الحكومة اختارت فتح ملف دعم الوقود، وتحريك أسعار خدمات بعض وسائل النقل العام كآلية سريعة لإصلاح الخلل المالى ومحاولة علاج عجز الموازنة.
الأثر المباشر لارتفاع أسعار مواد الطاقة عادة ما يكون تضخمياً بالنسبة لمختلف الأسعار، نظراً إلى ارتفاع تكاليف النقل على الأقل.. هذا يأتى فى ظل ضغوط تضخمية ناتجة عن تحرير سعر الصرف، وبالتالى فالحكومة تراهن على أن ارتفاع أسعار الفائدة بـ300 نقطة أساس ستتعامل مع الأثرين التضخميين دفعة واحدة، وهى مجازفة قابلة للرصد، واتخاذ القرار المناسب إن لم يقبلها السوق. الاستثمار كذلك يواجه تحدياً عنيفاً بسبب الارتفاع الكبير فى أسعار الفائدة، لكن الأثر الإيجابى لحل أزمة سعر صرف الدولار يمكن أن يكون أكبر.
هذا أيضاً يستدعى تحركاً عاجلاً فيما يتعلق بشبكة الضمان الاجتماعى لاحتواء الأثر السلبى على الطبقات الأشد احتياجاً، ويضع على الحكومة عبئاً كبيراً للعمل على عودة الاستثمارات وزيادة التدفقات الدولارية عبر القنوات المختلفة بعد أن قدّمت السلطة النقدية ومن قبلها الغرف التجارية ومن ورائهما الشعب كل ما يمكن تقديمه حالياً.
بقلم : د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر