اقتصادنا يا تعبنا….. الحلقة 16..
كل يوم تطالعنا الصحف بالقبض على هذا وذلك من العاملين بالدولة أو أجهزتها أو شركاتها يتقاضون رشاوى بقيم مختلفة، مقابل تخليص معاملات أو تسهيل الحصول على مزايا ومستخلصات أو غيرها.. وقد يكون هذا الموظف صغيراً أو كبيراً.. وتميز هنا منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية بين الفساد الفعال أو النشط Active (معطى الرشوة) وهو الطرف الذى يعرض رشوة أو أي ممارسات فاسدة، والفساد السلبى Passive (متلقى الرشوة)، وهو قبول الرشاوى أو الممارسات الفاسدة المعروضة. ومن ثم فإن تعريف المنظمة للفساد بأنه «إساءة استخدام سلطة الموظف العام (المنتخب أو المُعين) سواءً بشكل نشط أو سلبى لتحقيق منافع شخصية سواءً منافع مالية أو غيرها». ومن هذا المنطلق يمكن الحديث عن مستويات مختلفة لممارسة الفساد، أهمها ما يلى:
• الفساد الكبير: ويرتبط الفساد الكبير باتساع الصلاحيات والقدرة على تفويضها، وكذلك بالقدرة على التأثير على اتخاذ القرارات، مثل قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وإرساء المناقصات والعطاءات، أو حتى عن طريق التلاعب بصياغة السياسات العامة والوظائف الأساسية للحكومة لتمكين القادة والأفراد فى مستويات الإدارة العليا من الاستفادة على حساب المصلحة العامة، أو حتى سعى التحالفات السياسية للاستحواذ على صلاحيات الدولة واحتكارها. وهذا المستوى من الفساد يمارسه الحكوميون فى المستويات الأعلى من السلطة، وقد يكون كذلك على مستوى الحكوميين فى مستويات أقل نسبياً ممن لهم علاقة بالعطاءات والمشتريات العامة أو ممن لهم صلاحيات فى مجال تخصيص الأموال أو الأصول العامّة، حيث يتم استغلالها لتحقيق مكاسب فردية من خلال التخصيص غير المستحق للمزايا أو اختلاس الأموال، أو تلقى الرشاوى لمنح الامتيازات والعطاءات العامة لجهة محددة (سواء كان شخصاً طبيعياً أو معنوياً).
• الفساد الصغير أو الأصغر: (أيضاً يعرف أحياناً بالفساد البيروقراطي) وهو ما قد يمارسه صاحب الوظيفة العامة على المستوى المتوسط والأقل فى تعامله العادى واليومى مع المواطنين أثناء محاولته الحصول على السلع والخدمات العامة فى أماكن مثل المستشفيات والمدارس العامة، أقسام البوليس والمرور، وغيرها. وجدير بالذكر أن معظم مؤشرات ووسائل قياس مستويات الفساد معنية أكثر بهذا المستوى من الفساد، لأنها موجهة بشكل كبير إلى أصحاب الاستثمارات ورؤوس الأموال لاتخاذ قرارات صحيحة إزاء اختيار بيئة مناسبة لاستثماراتهم وكيفية إدارتها فى الدول المختلفة. حيث يزداد تفاقم الفساد بمدى تعقد الجهاز البيروقراطى وانحرافه.. فالبيروقراطية المنحرفة التى يمكنها أن تؤدى لخنق النشاط الاقتصادي، كما أن «عدم تفعيل القانون» وتعطيله بقصد أو دون قصد له تكاليفه الباهظة على الاقتصاد، كذلك قدرة الجهاز البيروقراطى على إحداث هذا «التعطيل» عادة ما يعنى وجود فرصة لهم لجمع الرشاوى للإسراع بإنجاز الأشياء المطلوبة – وهو ما يضيف إلى زيادة تكاليف أداء الأعمال.. بل قد تكون الرشاوى أيضاً بمثابة حاجز يمنع الشركات الأخرى التى ما زالت بصدد اتخاذ القرار الاستثمارى..
وبالتالى فإن الدول التى تكون حكوماتها غير فعالة وتعمل بلا رؤية ولا كفاءة أو تكون تسلطية أو تزداد فيها وطأة البيروقراطية وفسادها يمكن أن تظل فقيرة بالرغم من وفرة الموارد الطبيعية، وتزيد من رغبة المستثمرين فى عدم المخاطرة باستثماراتهم الكبيرة المطلوبة لتطوير الموارد الطبيعية التى تمتلكها الدولة إلى منتجات تؤدى لزيادة رخاء تلك الدول.. كما أن مزاحمة الدولة للقطاع الخاص أو انخراطها فى الأنشطة الاقتصادية المتنوعة بشكل أو بآخر دون خلق جو تنافسى حقيقى يخلق أيضا باباً خلفياً للفساد؛ لأنه سيدفع الى التقرب من موظفى الدولة المعنيين كنوافذ موصلة لتعظيم مصالحهم والحصول على مشروعات ومزايا.. الخ..
وإذا كان الهدف من وجود دولة قوية وفعالة تقوم حكومتها على إيجاد إطار قانونى واضح وشفاف يضاهى به تجارب الدول المتقدمة مع ضمان الدولة فى ذات الوقت تنفيذ هذا الإطار القانونى بحزم وعدالة على الجميع تحت مظلة الاقتصاد.. فإن وجود ثقوب فى ثوب هذا الإطار القانونى أو تطبيقة يفتح دورباً للفساد..
وبالتالى لا بد من إصلاح الاطار القانونى المنظم وإعلاء صوت القانون وعدالة تطبيقه ووضوح النصوص القانونية وحل مشكلة تضارب الاختصاصات، وترسيخ الرقابة السابقة واللاحقة ودعم استقلالية الأجهزة الرقابية وإلزام الجهات الحكومية بإصلاح قوانينها ولوائح من واقع التجاب الدولية وتبسيط إجراءات تقديم الخدمة وتخصيص جزء من ميزانية كل منها فى تطبيق الميكنة الكاملة لتلك الإجراءات لتقليل التعامل المباشر بين الموظف ومتلقى الخدمة. وزيادة الاهتمام بالتدريب والتوعية على نظم النزاهة والشفافية وترسيخ مفاهيم المسئولية responsibility والمساءلة accountability ودور الرأى العام وأجهزة المجتمع المدنى ووجود قانون ينظم الحصول على المعلومات وكيفية تداولها وتفعيل قانون تضارب المصالح الذى صدر فى نهاية 2013؛ مع الفصل الواضح بين السلطات الثلاث فى الدولة وطريقة الاختيار والترقى، ما يقودنا فى النهاية إلى حوكمة الدولة the Governance of the State.
وما نبغى الا اصلاحاً…