بالطبع لا يخفى على أحد حالة التدهور وعدم الاستقرار الاقتصادى التى عانت منها مصر فى الآونة الأخيرة انعكست فى شكل تدهور المؤشرات الاقتصادية المختلفة فارتفع معدل التضخم نتيجة ارتفاع أسعار السلع كنتيجة لارتفاع أسعار العملات الأجنبية بالسوق الموازية ووصول سعر الصرف فيها لمستوى قياسى بلغ 18.30 جنيه للدولار، ليس ذلك فقط فقد ارتفع عجز الموازنة والعجز فى ميزان المدفوعات خاصة مع انخفاض تحويلات المصريين بالخارج وانخفاض عائدات السياحة وزيادة الواردات مع انخفاض إيرادات التصدير، وكذلك انخفاض الاستثمارات الأجنبية نتيجة دواعى أمنية مع عدم استقرار بيئة الاستثمار وتعدد أسواق الصرف كل ذلك كان من نتيجته انخفاض الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية لدى البنك المركزى المصرى والذى بلغ 13 مليار دولار قبل إبرام قرض الصندوق وقرضى البنك الدولى والبنك الأفريقى للتنمية وكذلك تحويلات المانحين.
ومع تدنى قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار الأمريكى بالسوق الموازى وانخفاض القدرة على تلبية احتياجات البنوك لمقابلة قوائم الانتظار لفواتير الاستيراد مع ارتفاع تكلفته نظراً لأن جزءاً من العملة يتم تدبيرها من السوق الموازى، وفى الوقت الذى شهد مفاوضات الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولى للحصول على قرض منه، اتخذ البنك المركزى المصرى يوم الخميس 3-11-2016 قرار تحرير سعر صرف الجنيه المصرى مقابل العملات الأجنبية أو ما يطلق عليه تعويم الجنيه، وهو أحد أساليب إدارة السياسة النقدية ويقصد به ترك سعر العملة يتحدد طبقاً لتلاقى قوى السوق العرض والطلب.
وبداية وضع البنك المركزى سعراً عادلاً للجنيه أمام الدولار بلغ 13 جنيهاً مصرياً للدولار وترك للبنوك حرية تحديد سعر الصرف صعوداً وهبوطاً بمعدل 10%، وذلك بعد أن كان يتم تحديده إدارياً قبل التعويم بـ 8.88 جنيه للدولار ووصل الدولار بالسوق الموازية حينها لما يقرب من 18 جنيهاً للدولار.
ولتعزيز ذلك الإجراء اتخذ البنك المركزى المصرى عدداً من الإجراءات التى تدعم قرار التعويم منها:
1) استحداث نظام الإنتربنك الدولارى حيث تتبادل البنوك فيما بينها فائض وعجز الدولار بالأسعار المعلنة لديها.
2) تم رفع سعر العائد على الإيداع والإقراض لليلة واحدة ليصبح 14.75% للإيداع و15.75% للإقراض وحث البنوك على إصدار شهادات إيداع بفائدة مرتفعة.
3) إلغاء القيود على عمليات السحب والإيداع بالعملات الأجنبية.
4) السماح للبنوك بالعمل حتى الساعة التاسعة مساءً بالإضافة للعمل أيام العطلات الرسمية (الجمعة والسبت) وذلك فى مجالى الصرف الأجنبى وتحويل الأموال.
5) تعهد المركزى بعدم فرض شروط على التنازل عن العملات للبنوك.
6) ضمان أموال المودعين بالبنوك بجميع العملات (وهذا على غير المعتاد بالبنوك المركزية بالعالم والتى تضمن جزءاً من الودائع فقط).
7) استمرار القيود المفروضة على سحب وإيداع العملات الأجنبية بالنسبة للشركات التى تعمل فى مجال استيراد السلع غير الأساسية بواقع 50 ألف دولار جملة الإيداع الشهرى و30 ألف دولار سحباً يومياً.
8) تشغيل الخط الساخن 16775 والخاص بالبنك المركزى المصرى بغرض تلقى شكاوى العملاء فيما يخص الممارسات الخاطئة فى التعامل بالنقد الأجنبى بالبنوك (كحالات التداول غير الشرعى للنقد الأجنبى أو رفض التعامل بالنقد الأجنبى بالسحب أو الإيداع أو تداول النقد الأجنبى بما يخالف الأسعار المعلنة وغيرها من الممارسات).
وتزامنت تلك الإجراءات مع خفض الدعم على المحروقات ومفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولى ثم الحصول على الشريحة الأولى من القرض وكذلك تفعيل ضريبة القيمة المضافة، وترتب على تلك الإجراءات عدد من النتائج على المدى القصير منها انخفاض سعر صرف الجنيه بالبنوك، وارتفاع حصيلة البنوك من مشتريات الدولار الأمر الذى ساعد على تنفيذ تمويل استيراد السلع الأساسية وخفف من ضغوط الطلب على العملة، وكذلك ساهم ارتفاع العائد على الشهادات بالبنوك فى زيادة الإيداعات بالبنوك بالجنيه المصرى، على جانب آخر رفعت مؤسسة إستاندارد آند بوورز الائتمانية نظرتها المستقبلية لمصر من سلبى إلى مستقر كما أن الصادرات المصرية زادت تنافسيتها حيث أصبحت من وجهة نظر غير المقيمين أرخص من ذى قبل بالعملة الأجنبية مقارنة بنظيرتها بالدول الأخرى، كما سترتفع القيمة الدفترية للصادرات وليست الحقيقية، نظراً لأن قيمة الصادرات كان يتم حسابها بسعر 8.88 جنيه للدولار والآن يتم حسابه بسعر يفوق 13 جنيهاً للدولار.
إلا أنه من جهة أخرى ترتب على قرار التعويم خسائر للمستوردين حيث سيضطرون لتوفير الدولار بسعر يفوق 13 جنيهاً للدولار أعلى مما كانوا يتعاملون به من قبل مع البنوك حتى وإن كان جزءاً منه يتم تدبيره من السوق السوداء كما أن الواردات أصبحت بالعملة الأجنبية أغلى من ذى قبل، وبالطبع سينقل المستوردون تلك الأعباء للمستهلك فى شكل ارتفاع الأسعار.
وتعود أهمية قرار التعويم المصاحب بالإجراءات الإصلاحية الاقتصادية إلى عدة اعتبارات منها الانخفاض الشديد فى الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية وانخفاض قيمة العملة المحلية والتى ظهرت من خلال السوق السوداء الأمر الذى أدى لارتفاع الأسعار نظراً لارتفاع تكلفة الحصول على الدولار، إلا أن القرار سيترتب عليه عدد من الأمور:
1) حقق أحد أهم الشروط الجاذبة للاستثمار والتى يبحث عنها المستثمر الأجنبى فى أى سوق وهو وجود سعر صرف موحد يستند عليه فى قراراته، وسيترتب على ذلك تدفق متوقع للاستثمارات التى كانت تنتظر قرارات استثمار تشجيعية كتعويم الجنيه وتحويل الأموال دون قيود.
2) انخفاض معدل البطالة بعد تدفق الاستثمار الأجنبى للسوق المصرى.
3) تعزيز معدل النمو بزيادة الناتج المحلى الإجمالى.
4) زيادة تنافسية قطاع السياحة الناجم عن الانخفاض النسبى لأسعار الخدمات السياحية بالمقارنة بالدول الأخرى.
5) زيادة الاحتياطى الدولى من العملات الأجنبية حيث من المتوقع أن يصل إلى 23.5 مليار دولار بعد استلام الشريحة الأولى للصندوق.
ومن وجهة نظرنا فإنه يجب أن يتم تدعيم كل تلك الإصلاحات بوقف الاستيراد غير الضرورى، وتشجيع الصناعات المحلية للاستفادة من الاستثمارات الجديدة المتوقعة، وزيادة الدعم الممنوح لمحدودى الدخل كما يجب أن تفكر الدولة فى بيع جزء من المشروعات الخدمية المملوكة بالكامل للدولة.
رغم أن البعض يرى أن هذه المرحلة لم تكن تناسب قرار التعويم نظراً للتحديات الاقتصادية العديدة التى تواجه الدولة إلا أنه يمكن القول أن أى قرارات اقتصادية بالطبع لا يمكن إغفال أن لها بعض الآثار السلبية لكن إيجابيات التعويم ستطغى على سلبياته وإن كانت السلبيات ستنعكس على محدودى الدخل وستزيد من معاناة المواطن إلا أنه فى كل الأحوال كان القرار ضرورياً، خاصة أن صندوق النقد الدولى والمؤسسات المانحة تضع شرط تحرير سعر الصرف من ضمن الإجراءات الإصلاحية الواجب تحقيقها للحصول على القروض، كما أن نجاح القرار يعتمد على العديد من العوامل منها مدى مرونة الجهاز الإنتاجى ومدى وضوح رؤية أجهزة الدولة وجديتها لتحقيق الخطط الاقتصادية المتوقع تنفيذها.
بقلم دكتور/ طارق سعد الدين شل
مدير العلاقات الخارجية بالمصرف المتحد