لا يختلف أحد على ضرورة المحافظة على المياه، وعلى تجريم العبث بها كأهم مصدر للحياة، وكذلك كان رأى الجمهور واضحاً فيما يخص مصادر الطاقة المختلفة التى لم يعد ممكناً تسيير المعايش دونها، لكن الطريق الذى تسلكه المؤسسات البيروقراطية المترهّلة لتحقيق تلك الأهداف عادة يتقاطع مع أنفاق كثيرة للفساد والرشاوى والمحسوبية أو الفشل على أقل تقدير!
القانون يُسن ليفرض على الجميع، لكن «صنايعية» الفساد يتناولون صحيفة أى تشريع باليمين، ثم يعملون فيها صنوف التحريف، ويبحثون بين ثغراتها عما يمكن به تربيح أصحاب المال والنفوذ، فيصيبهم بعض من هذا المال وحظ من ذاك النفوذ.
هذه مقدّمة ضرورية للنظر إلى العلة الحقيقية للفقر، والتخلّف عن ركب التنمية من باب واحد للفساد، يمكنه أن يمرر المليارات خارج موازنة الدولة، لتحرم منه برامج الإصلاح فى البنية الأساسية والتعليمية والحماية الاجتماعية.
بالفعل لم تخل قائمة أثرياء العالم من شخصيات مصرية يجمع بينها الاستفادة من أراضى الدولة. صحيح أن التخصيص كان قانونياً، وأن الترخّص فى حق الدولة جريمة ارتكبتها حكومات سابقة ومجالس نيابية ضعيفة، لكن لهذا حديث آخر فقد حقق المطوّر العقارى المليارات من أراضٍ خصصّت له بملاليم، واستفاد من مرافق الدولة أثناء الإنشاء والتسويق للمشروع، لكنه لم يسدد أبداً حق الدولة! حتى الملاليم التى اشترى بها الأراضى لدىّ ما يثبت أن معظمها لم يسدد بعد خاصة فى المدن الجديدة، وجهاز مدينة السادس من أكتوبر يمكنه أن يثبت العكس إن استطاع!
فلنترك حديث الأرض فى هذا المقال؛ لأنه حديث خطير، وسبق أن تناولته فى كثير من المقالات السابقة، ولأنه هو السبب الفعلى فى التفاوت الرهيب فى الثروات داخل مصر والذى من شأنه أن يجعل ارتفاع الأسعار ناراً على الكثيرين وبرداً وسلاماً على قلة المنتفعين.
هذا المقال معنىّ إذن بالمرافق وخاصة المياه التى تسبب تراجع نصيب الفرد منها إلى دخولنا تحت خط الفقر المائى. شركات المياه سقطت على وليمة فاخرة هى مختلف الأحياء والمنتجعات بالمدن الجديدة التى ارتضى معظم ساكنيها (غير المسقّعين للعقارات) بعد المسافة وتردّى الخدمات من أجل تلبية دعوة الدولة بالخروج من مناطق الكثافة السكانية فى القاهرة الكبرى والإسكندرية إلى رحب العيش فى تلك الصحراوات!..لكن شركات المياه ترى أمراً آخر، ترى أن معظم تلك العقارات الجديدة قد أنشئت باستخدام المياه الخاصة بالشركة دون عدادات ودون إذن من الشركة، بل وربما تسببت تلك الإنشاءات فى تضرر البنى الأساسية لشبكتى مياه الشرب والصرف.. صحيح أن هناك عقارات أنشئت بالخرسانة الجاهزة أو بحفر آبار.. لكن رجال الشركة الذين يتمتعون بضبطية قضائية لا ينظرون إلى تلك الاحتمالات عند التقدير الجزافى لتكلفة المتر المكعّب الواحد إنشاءات، والتى هى أعلى تكلفة بين الشرائح المختلفة!.. كل هذا مقبول لو أن الشركة اتجهت بمطالباتها إلى المطوّر العقارى المعلوم لديها ولدى أجهزة الأحياء، ذلك المطوّر الذى قلنا منذ قليل إنه أكثر من حقق الثروات فى مصر! لكن الحقيقة أن كل الشواهد تؤكد أن شركات المياه بالمدن الجديدة (على الأقل شركة مياه الجيزة التى لدىَّ ما يثبت عليها ذلك) تتقاعس عن المطالبة بفاتورة المياه المستخدمة فى الإنشاءات من المطوّر الفعلى، بل وتنتظر «سنوات» حتى ينتهى ذلك المطوّر من إتمام جميع الوحدات، بل والتوسّع خارج المخطط العام بالمخالفة للخرائط الأصلية بغرض امتصاص كل جنيه يمكن الحصول عليه والاستفادة من الارتفاع الجنونى فى أسعار العقارات الذى تسبب هو فيه، ليبيع المتر التجارى بخمسين وسبعين ألف جنيه! وبعد ذلك تعود شركة المياه بمطالبة السكان «الغلابة» بفواتير تقدّر بعشرات الآلاف، وإلا يتم الحجز الإدارى وقطع المياه!
وإذا سألت الشركة عن ذنبك أيها الساكن فى تحمّل تلك الفواتير الباهظة والتى تضاف إلى أعبائك وإلى تكاليف الاستهلاك المتزايدة من المياه والطاقة.. قيل لك، نحن نعود على الوحدة بالمطالبة، ولا شأن لنا بالسارق الفعلى لموارد الدولة! أولو كان هذا السارق معلوماً للجميع؟! أولو كان ما زال يبنى داخل الكومباوند ملاحق جديدة يمكن للدولة أن توقفها لإجباره على الدفع؟! أولو كانت الدولة تعانى أزمة اقتصادية طاحنة، والمواطن يعانى تضخّماً غير مسبوق فى الأسعار؟!
شركة مياه الجيزة التى يعانى المواطنون من قطعها للمياه بالأيام، لغياب إدارة المخاطر والاعتماد على شركات مقاولات خاصة فيما يقع تحت مسئوليتها، تتسبب (ليس بالضرورة عن عمد) فى تربيح كثير من المطوّرين العقاريين فى أكتوبر، وتضيع على الدولة ملايين، وتحمّل المواطن بأعباء لا قبل له بها.. الشركة تنتظر المطوّر العقارى الذى خٌصصت له الأرض بملاليم حتى ينتهى من بيع الوحدات وأحياناً حتى ينتهى من تسليمها لاتحاد شاغلين!! ثم تقوم بتحميل الوحدات المباعة للمواطن بآلاف الجنيهات المقدّرة جزافياً على سبيل ما تم استخدامه من شبكة المياه «للإنشاءات»!! الشركة الحكومية تعلم المطوّر، وربما تكون قد طالبته بمكاتبات رسمية من باب سد الذرائع! لكنها تفضّل الانتظار حتى يتسلم الوحدة مواطن بسيط ثم تقوم بمحاسبته.
هذا بلاغ للمسئولين فى الدولة، وتحديداً فى الشركة القابضة للمياه، ووزارة الرى، وهيئة الرقابة الإدارية.
د. مدحت نافع
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر